د. عدنان منصور | كم هم كثر الكتاب والمحللون «الاستراتيجيون» والإعلاميون، والسياسيون الذين يتكلمون، ويركّزون عند كلّ مناسبة على الخلاف الأميركي ـ «الإسرائيلي» ويفرحون لهذا الخلاف، فيما غيرهم وهم كثر أيضاً، يتحدّثون بكلّ ثقة عالية واعتزاز كبير، عن التعاون والتضامن العربي ـ العربي الوهم!
حقيقة الأمور تظهر أنّ «الخلاف» بين الولايات المتحدة «وإسرائيل» حول الحرب على غزة لا يعبّر عن واقع الحال، ولا يتعارض مع طبيعة وتجذّر العلاقات الاستراتيجية الثنائية، ورسوخها بين الطرفين الأميركي والإسرائيلي، إذ إنّ «الخلاف» الشكلي يظهر من خلال التباين المحدود في وجهات النظر، حول الأسلوب «الإسرائيلي» المتبع في الحرب على غزة، وطريقة التعامل مع الأحداث فيها، والسياسات الواجب اعتمادها لجهة الصراع العربي «الإسرائيلي»، وبالذات القضية الفلسطينية والمقاومة في فلسطين والمنطقة.
إنّ «الخلاف» الأميركي ـ «الإسرائيلي» يجسّد في داخله الخبث، والنفاق، والتواطؤ، والتنسيق الكامل بين واشنطن وتل أبيب، ولا يطال بأيّ شكل من الأشكال العلاقات الوثيقة، والتفهّم العميق بين الطرفين في كيفية مواجهة المقاومة في غزة، والقضاء عليها، وعلى شعبها وترحيله، ومن ثم تصفية القضية الفلسطينية، وتقويض الأنظمة الوطنية في المنطقة المشرقية.
في مجال آخر نجد أنّ «التضامن» النظري العربي ـ العربي، يجسّد في داخله التفرقة، والكراهية، والحذر من الآخر، والغدر، والتآمر، وفي مرات عديدة، الخيانة من هذا وذاك، والطعن من هنا وهناك.
«الخلاف» الأميركي ـ «الإسرائيلي» حول أسلوب العمليات الحربية في غزة وممارساتها، لا يمسّ مطلقاً بالتنسيق، والعمل المشترك، وبالحلف «المقدس» المتين الذي يربط الولايات المتحدة و»إسرائيل» لا من قريب أو بعيد. فيما التضامن العربي ـ العربي وللأسف، لا يحمل في داخله وسلوكه ونهجه، وعرفه، سوى التباعد، والحقد، والعمالة، والطعن المتبادل.
«الخلاف» الأوّل لا ينال مطلقاً من وحدة الموقف، ووحدة الصف والهدف ولا من السياسة الاستراتيجية للدولتين الأميركية والإسرائيلية، في حين نجد انّ «التضامن» العربي ـ العربي لا يجلب لدول الأمة وشعوبها إلا التآمر، والاقتتال، والدمار، والكوارث والفوضى. أنظروا الى ما فعله التضامن العربي ـ العربي في سورية، والعراق، وليبيا، والسودان، واليمن، والصومال، وفلسطين، وما آل اليه الموقف العربي المتشرذم بعد الهرولة، والاعتراف، والتطبيع مع «إسرائيل»، قبل أن ينال الفلسطينيون حقوقهم، وهم الذين نقضوا مبادرتهم العربية، وأطاحوا بها، وجرّدوا أنفسهم من أيّ التزام، أو ضغط يحقق ما التزموا به سابقاً في مؤتمراتهم وقممهم!
في ظلّ التضامن العربي ـ العربي الوهم، دمّرت سورية، وفي ظلّ التضامن العربي تمزق العراق، وقسم السودان. في ظلّ التضامن العربي العربي، تشرذم الصومال واشتعلت ليبيا، وفتت اليمن، ونحرت فلسطين، وتربعت «إسرائيل» في ديار العرب العامرة!
شتان إذن بين «الخلاف» الأميركي ـ «الإسرائيلي» الصوري والتضامن العربي ـ العربي المزيف، الذي لا أساس، ولا صدقية له، وهو المشكوك به على الدوام. إنه تضامن عربي ـ عربي ثابت على عدم الالتزام بالقرارات والعهود والوعود، والمواثيق، ذات الصلة بالقضايا الجوهرية للأمة.
الخلاف الأميركي – «الإسرائيلي» لم يجعل الولايات المتحدة تتوقف عن تزويد «إسرائيل» بالمال والسلاح، وتوفير الدعم اللوجستي والاستخباري، والإعلامي والسياسي والدبلوماسي الذي تقدّمه لها، فيما «التضامن الأخوي» العربي ـ العربي فتح حدوده وأجواءه لـ «إسرائيل»، وسهّل دخول السلع التي يحتاجها كيان الاحتلال، في الوقت الذي يشتدّ حصار الأشقاء على غزة، ولم يقدموا ولو الحدّ الأدنى مما يحتاجه فلسطينيو غزة من غذاء ودواء. وكساء، أو الوقوف الى جانبه وقفة الشقيق للشقيق!
يا ليت التضامن العربي ـ العربي، يكون على شاكلة الخلاف الأميركي ـ «الإسرائيلي»، لنجت دولنا جميعاً. ويا ليت التضامن الأميركي ـ الصهيوني، يكون على شاكلة «التضامن» العربي ـ العربي، لكان العالم العربي حقق أهداف شعوب أمته، وعرف طريقه جيداً…
لقد أدرك المواطن العربي بحسّه ووعيه، أنّ التضامن العربي، أضحى من العجائب والمستحيلات في عالم عربي منكوب منذ عام 1948، مبتلٍ بحكام وزعماء وقادة، أضفوا على أنفسهم هالة كبيرة، أرادوا أن يقنعوا شعوبهم زوراً بأنهم يتصفون بالشجاعة والحكمة، وبمنسوب عالٍ من «الوطنية» و»العروبة» و»الضمير الحي»، و»النخوة» و»الأصالة»، والصدقيّة المتميّزة التي تتجلى في تصريحاتهم وخطاباتهم، وهم يدافعون عن قضايا الأمة، ومصالحها، وسيادتها، وحرية وحقوق شعوبها دون حدود!
يا ليت التضامن العربي ـ العربي يكون على شاكلة الخلاف الأميركي ـ «الإسرائيلي»، ويا ليت الخلاف الأميركي ـ «الإسرائيلي» يكون على شاكلة التضامن العربي، لكانت الأمة بألف خير، ونجت من المنافقين،
والعملاء، والخونة، والمأجورين، والمتواطئين على الأمة والعابثين بقضاياها القوميّة، والمدمّرين لبلدانها.
لا نريد بعد الآن تضامناً عربياً ـ عربياً على ما هو عليه اليوم، وإنما نريد خلافاً عربياً ـ عربياً، على غرار الخلاف الأميركي ـ الإسرائيلي حتى تتحرّر الأمة وشعوبها، ويكون لزعمائها وقادتها القرار الواحد، والهدف المشترك، والنيات السليمة الطيبة، كي تخرج من المستنقع القذر التي هي فيه الآن.
*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق