اليوم – الثانى من نوفمبر – تمر 107 سنوات على صدور وعد بلفور، وبهذه المناسبة نستعرض مفاهيم قانونية قد تكون غائبة لهذا الوعد، فنذكر بأنه عندما انتهزت بريطانيا ظهور الحركة العرابية فى مصر، والحركة المهدية فى السودان انقضت مع عام 1882 محتلة مصر والسودان، كأول نهش فى تركة الرجل المريض تركيا.
وفى عـــــام 1916 سعت بريطانيا إلى الشريف حسين والى الحجاز ـ وقتذاك ـ ومنحته وعد «كيتشنر ـ مكماهون» باستقلال الدولة العربية ـ تمتد من شمال العراق وسوريا شمالا حتى اليمن وحضرموت جنوبا – وجعله خليفة عليها، شريطة مؤازرته لها فى حربها ضد الدولـة العثمانية، ففعل وتحالف معها. ولكنها غدرت به فى العام التالى عندما قامت بإبرام اتفاقية «سايكس ــ بيكو» السرية مع فرنسا، وقسمت الدولة العربية الموعودة بينهما، وحرصت بريطانيا فى تلك الاتفاقية على إبعاد نفوذ فرنسا عن أهم قواعدها فى السويس، وجعلت من الاحتفاظ بنفوذها فى فلسطين سبيلاً لذلك.
لم يرق ذلك لفرنسا الدائمة الحنين لقناة السويس التى شقها الفرنسى ديليسبس، كما لم يلق ذلك قبولاً عند ألمانيا حليفة تركيا، والتى وجدت نفسها ـ بعد أن أبُعدت عن مياه البحر الأحمر ـ تبعد عن مياه البحر الأبيض أيضا، ووجدت روسيا وأمريكا نفسهما بعيداً عن كعكة التقسيم.
لذلك سعت كل هذه الدول بطريقتها للعب بالورقة اليهودية، لإيجاد موطئ قدم لها فى فلسطين بجوار القاعدة البريطانية فى قناة السويس، وفى ذات الوقت التخلص من اليهود المقيمين لديها، فيما عرف بالمسألة اليهودية، التى كانت تشكل قضية سياسية فى أوروبا.
بيد أن بريطانيا صانعة مبدأ فرق تسد، سحبت البساط من تحت أقدام الجميع، وأحرقت الورقة اليهودية فى أيدى الجميع، وذلك عندما أعلنت فى 2 نوفمبر 1917 وعد بلفور المشئوم، وفيه، حرصت على منح اليهود وعدا بوطن قومى فى فلسطين، وليس وعدا بدولة، فهى ليست من الغفلة لتستبدل الأطماع الأوروبية والأمريكية بالأطماع اليهوديـــة بإقامة دولة لهم بجوار قاعدتها فى السويس.
لذلك حرصت على النص فى الوعد على أنه وطن قومى لليهود، أى ملجأ قومى لهم ـ أستاذنا الدكتور محمد طلعت الغنيمى ـ طيب الله ثراه ــ هو أول من نبه إلى هذا المعنى ــ يقتصر على منحهم حقوقاً مدنية ودينية فى فلسطين فحسب ــ دون الحقوق السياسية ــ وعند التعارض بين تلك الحقوق المدنية والدينية لليهود وحقوق السكان الأصليين فإن العلوية تكون لحقوق السكان الأصليين، وتعبير السكان الأصليين أكد دون شك أن اليهود ليسوا هم السكان الأصليين لفلسطين على نحو ما زعم اليهود ومازالوا يزعمون.
وحتى تحرم بريطانيا الأطماع الأوروبية والأمريكية من ميزة التخلص من اليهود، حرصت على أن تنص بأن الوعد لا يمس بحقوق اليهود وأوضاعهم السياسية فى تلك البلدان.
وحرصت بريطانيا كذلك على ألا يكون ملجأ اليهود القومى فى فلسطين هو الملجأ الوحيد، حيث هناك ملاجئ لهم مقترحة فى القرم وأوغندا والأرجنتين ونيويورك، لذلك لم تستخدم أداة التعريف للملجأ وإنما استخدمت أسلوب النكرة حيث ورد فى التصريح ملجأ قومى لليهود فى فلسطين a «national home for the Jewish people» in Palestine، ولم تستخدم أداة التعريف (The) أى لم تقل الملجأ القومى، وهو الأسلوب ذاته الذى استخدمته بريطانيا فى صياغة قرار مجلس الأمن 242 لعام 1967 فلم تقل انسحاب القوات الإسرائيلية من الأقاليم العربية التى احتلتها مؤخرا، وإنما قالت انسحاب القوات الإسرائيلية من أقاليم ـ Territories ـ عربية احتلتها مؤخرا، وحذفت من ثم أداة التعريف (The). عليه .. يمكننا القول إن وعد بلفور من حيث الشكل: هو وعد ممن لا يملك وهو بريطانيا لمن لا يستحق وهم اليهود.
ومن حيث المضمون: هو وعد بوطن أو بملجأ قومى لليهود ـ وليس بدولة ـ يقتصر على منحهم الحقوق المدنية والدينية دون السياسية فى فلسطين، وعند تعارض الحقوق المدنية والدينية لليهود مع الحقوق المدنية والدينية للفلسطينيين تكون العلوية لحقوق الفلسطينيين، ومن هذا الوعد نجد أن الحق السياسى الوحيد، الذى منحه إياه هذا الوعد لليهود، هو الحق فى العودة إلى أوطانهم الأصلية، حيث إن حقوقهم السياسية هناك لا تمس.
هذا وسبق للجنة كراين الأمريكية فى عام 1919 ـ أن أكدت عليه شكلاً، ومضموناً، ومفهوماً.
فلجنة كراين التى شكلها الرئيس الأمريكى آنذاك ويلسون فى مؤتمر باريس عام 1919 لتقصى رغبات السكان فى فلسطين والشام، انتهت إلى تحديد ذات المركز القانونى للوطن القومى لليهود فى فلسطين، الذى أرادته بريطانيا لوعدها المشئوم وعد بلفور، إلا أن هذه اللجنة قد زادت عليه بأن طالبت بإلغاء أو تعديل المشروع الصهيونى الباغى إلى إقامة دولة لليهود فى فلسطين على حساب هضم حقوق السكان الأصليين وباستخدام القوة المسلحة إذا لزم الأمر ـ وفقا لما صرح به اليهود أنفسهم للجنة ـ حال كونه يتعارض ومبادئ الرئيس الأمريكى ويلسون، خاصة فيما يتعلق بالحق فــــــــى تقرير المصير، وفى منع الاستيلاء على أراضى الغير بالقوة المسلحة أو بالاحتيال، وبالمناسبة هذا ما أكده نيتانياهو فى جداله مع الرئيس الفرنسى ماكرون مؤخرا، وقتما أكد ماكرون أن على إسرائيل أن تحترم قرارات الأمم المتحدة، وألا تنسى انها أنشئت بموجب قرار التقسيم 181 لسنة 1947 فرد عليه نيتانياهو، بأن إسرائيل أنشئت بالقوة المسلحة وليس بقرار من الأمم المتحدة!.
——————
أستاذ القانون الدولى