بين الحقيقة والزّيف، الحرب مستمرة بقلم: ادريس هاني

– تستهدف حرب الإبادة أجساد المدنيين، حيث لم يعد من هدف أسهل على الاحتلال من المدنيين، هذا وتستهدف الحرب النفسية الأذهان والمشاعر أيضا. الهدف الذي لا زال الاحتلال يتطوّح فيه هو عزل المقاا..ومة عن بيئتها.
– اليوم هناك استهداف مباشر لآخر بنود القانون الدّولي الإنساني، لا نتحدّث عن المدنيين فحسب، بل عن استهداف قوات اليونيفيل، ماذا بقي أمام الاحتلال لم يستهدفه؟ ولكنّه مع ذلك يخفي إخفاقاته في الميدان، إنّه منذ عام لا زال عاجزا عن تحقيق أي هدف عسكري في ميدان القتال. الحرب البرّية تشهد بانتصار المقاا..ومة على الاحتلال.
– ولا غرو من أنّ معضلة الوعي قاتلة، ومعارك استنزاف وإلهاء الشعوب قائمة، وأنّ صرف الأنظار عن القضية المركزية سواء عبر تغيير المعجم السياسي لمعركة المصير أو تحقيق أهداف الاستعمار وإكمال مهمّته ولو بشعارات تحررية زائفة، هو قضية يفضحها الميدان. اليوم تقدّم المقاا..ومة أخطر وأذكى أنماط التحرر الوطني، فاقت كل تجارب الأمم بما في ذلك الثورة الفيتنامية.
– وبالفعل، إنّ حكاية شرق أوسط جديد هي أكبر من الاحتلال نفسه، هي حكاية إمبريالية بكلكلها، وهي تعمل بكلّ إمكاناتها. إنّ استهداف حارة من قبل الاحتلال الذي هو واجهة في حرب كونية على المقاومة، يعني أنّ المستهدف هو كل البلاد العربية، ومحاولة التشنيع على آخر ما تبقّى من ممانعتها. الشرق الأوسط الجديد له معنى واحد: كيف نخضع المنطقة للتبعية السياسية والثقافية والاجتماعية لإرادة المحتلّ.
– وسائل الحرب النفسية متنوّعة، المضحك فيها انخراط بعض العملاء في هذه الحرب عبر معلومات زائفة، زائفة تكمن قوتها في وقاحتها، والمشكل أنّهم غير مهتمين بصدمة الواقع لكل ما يقدمونه من معلومات زائفة. والرأي العام لا يدري ماذا يصدق، أرأس الخطاب أم ذيله، تارة نسمّي هؤلاء أدرعا، وتارة نعتبرهم مخدوعين. المشكلة حين يتحدث العميل عن وجود عملاء، فمن نصدق إذن، فإن صدّقنا العميل كذّبناه، وإن كذبناه صدّقناه، ألا ترى أنّ مفارقة كذّاب كريت قائمة في هذا المارستان من خلط الأوراق؟
ثمّ إنّ العمالة اليوم لم تعد خفية، بل باتت وقحة ومعلنة، أي آيلة إلى مرحلة الاستنزاف، فإذن هي ليست عمالة بل اليوم هي قصة عبيد المنزل يقومون بالواجب لصالح الاحتلال، حتى “الزمن الجميل” للعمالة ولّى، فالعمالة أصيبت هي الأخرى بالتّفاهة، وممثلوها غير مقنعين حتى لكولومبو الأعور في بطولة بيتر فولك.
– وطبيعي أنّ من استُهْدِفوا تقنيا سيغيرون وسائل التواصل، سينطوون على أنفسهم لإعادة تنظيم أنفسهم، ما المشكلة؟ لقد داخ الاحتلال وأبواقه، لأنّهم لم يعودوا يعرفون كيف يعيدون الكرة. لقد علّقوا آمالا على عملية هي إلى الغدر أقرب منها إلى مُسَمّى الاختراق، لكنهم أصيبوا بخيبة أمل..
– في هذا الشرق الأوسط تدور رحى حرب كونية، حرب الإمبريالية على حارة، وهناك يُصنع التّاريخ، فماذا يضير من لا عهد لهم بالحرب؟
طبعا إنّ استهداف المقاا..مة ناتج عن ثأر مزمن، وهذا الثأر ما كان ليحصل لولا أن تواطأت عليه الإمبريالية بكلكلها أيضا. لعلّ التِّقْوَال الآن حول عملية إفشال المقاا..ومة لكل مشاريع تخريب المنطقة في عشرية التطرفات المتصالحة مع أهداف الإمبريالية وبشعارات موهمة.
– تعمل المقاومة في بيئة وطنية تناقضية، نتيجة الوضع السياسي والدستوري لبلد بدأت أزمته مع الاحتلال نفسه، لكنها أيضا تعيش في بيئة منسجمة سوسيو-ثقافيا وسياسيا، وهذا ما يفسر الاستهداف المفرط للمدنيين. كم تحتاج المقاومة من الإمكانيات الفائقة والأسطورية لإقناع هذا الكلّ المتنازع؟ إنّ المقاومة محشورة في زاوية حرب مادية ورمزية متعدّدة الأطراف. لأوّل مرّة في تاريخ التشنيع، توجد حصانة رسمية لكي يمارس خصوم المقاا..ومة أقصى التجديف ضدها، من دون محاسبة. سيتسلّل من داخل هذا الوضع الكثير من تُجار الأزمات ومافيا السياسة، وسيتمّ أكبر استخفاف بالعقل البشري منذ دبّت الخليقة على وجه الأرض. ترى: هل نحن أمام مسرحية أم أمام اختراق كبير أم ماذا؟
– في المسألة الطّائفية تختلط كل الأوراق، الكلّ في مستوى واحد من الاختزال، لا ندري حتى الآن ما هي الشروط التي يجب توفرها في المُقاوم حتى يكون رسميا مُقاوما: هل على البُوذي أن يكف أن يكون بوذيا حتى يكون مقاوما(حالة فيتنام)، وعلى المسيحي أن يكف عن أن يكون مسيحيا ( حالة أمريكا اللاتينية)، وبالتالي على الشيعي أن يكف عن أن يكون كذلك حتى يكتب عند حُرّاس الطائفية مُقاوما. لا حل إذن إلا أن نمحي كتلة بشرية ومجتمعا من الخريطة ونستبدله بقوم آخرين، ومع ذلك سنه عليه إن فكر في مناهضة الاحتلال، فهذا هو الموقف العنصري والفاشيستي، اي حين نطبع مع الكراهية والاستئصال، حين تصبح الحرب على الهويات تحت عناوين زائفة.
إنّها المهزلة التي يعكسها كل هذا الصبيب الطّائفي الذي تعدّى المعقول، وهو يؤكد مقولة طه حسين: ما أكثر ما شنّع خصوم الشيعة على الشيعة! وطبعا لكل هذا تبريرات عند المهرجين لا نهاية لها. الطائفي الوظيفي الذي يختبئ خلف بنصره، يحاول أن يبرر ذلك بانخراط المقاا..ومةفي حروب العشرية الأخيرة، بينما يمتد التجذيف إلى ثمانينيات القرن الماضي، هل نذكرهم؟
لقد بلغت الطائفية حالة من الذّهان الأقصى، هستيريا التجديف الطائفي. ما ذنبهم أن يكونوا شيعة وهم كذلك منذ قرون؟ حتى ما يبدو اليوم حربا طائفية مزيفة، تتحدث عن بديل لهذه الطائفة من عملاء معتدلين، أي شيعة يكفرون بالمقاومة. بدأت المقاومة في لبنان عشرات السنين، كانت الفصائل الفلسطينية هي المستهدف، وفي عملية الاستهداف كانت هناك قرى وبلدات وتجمعات سكنية لشيعة لبنان تدفع ثمن تدخل واكتساح الاحتلال لجنوب لبنان. ما ذنبهم إن كانوا وُلدوا شيعة؟ وهل وضعوا لغزّة شرطا أن تكون شيعية ام لا؟ التركيز على شيعيتهم يُظهر البعد الطائفي لهذه الحرب الضّروس، لا سيما حين يتوحّد التشنيع الطائفي بين الديني وغير الديني، وحدة خطاب يرهن الموقف الإنساني للموقف من الهويّة.
هم كذلك شيعة بالجوهر مذ أقام أبو ذر في معركة بقضاء صور حاليا، حين كان التشيع موقفا سياسيا قبل تنسيق المذاهب وتدابرها واستقلالها بمقالاتها وكلامها وتقاليدها. من قال أن شرط المقاومة أن تكون سنيا او شيعيا او مارونيا او بوذيا او طاويا أو لا شيء من هذا؟ ومن قال أن العالم الاسلامي هو مجال لتعايش المذاهب والطوائف،
ما الغرض من هذا الاستنزاف الأهوج؟
ومع أنّ التهريج الطّائفي مضلّل، لأنّ أسهل طريق لتصفية الحسابات السياسية هو إطلاق العنان للتجذيف الطّائفي، فهو يهرِّب القضايا من سياقها المبدئي والسياسي.
لكن المفارقة تكمن هنا في مفهوم التّقية الذي وجد فيه البعض وسيلة للتجذيف المطلق، فالشيعة في هذه الهلوسة التشنيعية هو كاذبون مسبقا. بل حتى برسم المقاا..ومة هم فقط يمارسون التقية، ليسوا كالبشر في الصدق والكذب، بل هم كائنات تعيش من دون مشاعر واجتماع وعقل وقلب، نظرة عنصرية بلهاء، بل هم كاذبون في عالم عالم يفترض المحذوف ابتداء من نفسه، أنه عالم ملائكي مشحون بفضيلة الصدق، حتى الاحتلال هو أصدق من الشيعة، حتى وإن قُتلوا وخُربت ديارهم ودُمرت عوائلهم فهو يمارسون التقية ليس إلاّ. لكّن خصوم الشيعة يصدقون الشيعة فقط حين يكونون عملاء للاحتلال، وبهم يستشهدون من دون تحقيق. فالرأي العام يجهل أصول الكثير من النخب الشيعية من تلك البلدات، شيعة لبنان مثل حسين مروة ومهدي عامل، وعلي حرب أو مصطفى حجازي..ووفق هذا المنظور المتطرف، هل هؤلاء في تنوع مشاربهم واختياراتهم، كانوا فقط يمارسون التقية؟ وهل العميل الشيعي بائع وطنه هو صادق أم فقط يمارس التّقية؟ لماذا يصدقون الشيعة فقط حين يصبحون عملاء وخائنين لأوطانهم؟ واضح أنّ المشكلة تتعلق بالاختيار السياسي، فلقد تباكى بعض العرب على شهبور بختيار وهو من بختيارية إيران الشيعة، وتضامنوا مع منظمة خلق وهم شيعة، وأطربوا بصدق ومشاعر دافقة وهم ينصتون لفنانين شيعة مثل كاظم السّاهر أو راغب علامة أو هيفاء وهبي أو عاصي الحلاّني أو وائل جسار أو علاء زلزلي..ورقصوا على وقع دبكة كراكلا البعلبكية، وما دروا أنها مجرد تقية وتحايل على لعبة الجسد. وجب القول بناء على تهريجة الطائفيين، بأنّ هؤلاء الفنانين من الشيعة، هم فقط ممارسون للتقية في طربهم، وكل شيء هناك مسرحية، نعم، مسرحية ولو طارت عنزة…
المشكلة إذن سياسية، فلو قدم أهل جنوب لبنان والبقاع الورود للاحتلال، لوُضعوا في قائمة الرُّواد. ما قيمة كلّ هذا الاختزال الطائفي، بينما القوم في ذروة المواجهة مع احتلال يتهدد بلداتهم ويحتل جزء من أراضيهم هم وأهلهم.
بالفعل، لقد نجح الاحتلال في تجنيد عملائه وفضوليين يتطلعون إلى مجد قد يحققه لهم احتلال لا يملك الحسم في مصيره. إنّ من ليست له معرفة بطبيعة العملاء أيّام الاستعمار، فلينظر إلى هذه العيّنات التي تحمل على عاتقها مسؤولية حجب حقائق الواقع التي يراها العالم مباشرة، والاستخفاف بالرّأي العام بواسطة التّهريج.
إنّ الطائفية تورث العقل هُزالا، وتربّي على عدم الصّدق، فما أسهل التشنيع وما أصعب أن تكون صادقا في زمن تسونامي الزّيف.
قُلنا لكم، هوّنوا قليلا (شوي شوي، يا واش يا واش، سلاولي، دوسمون)، الانتصار قادم وستنتهي الهمروجة بكلكلها، كيف سنقنعكم مرّة أخرى بما يستشرفه مجاذيب الأمّة لا أوزاغُها؟!!

مواضيع ذات صلة: