ثلاثة صراعات دولية كبرى شاخصة على المسرح الدولي ، القضية الفلسطينية، أوكرانيا، تايوان،وقد بدأ “تنفيذ الاول” منذ 1917(مع وعد بلفور) بينما تمتد جذور الثاني الى 1922 ( تشكيل الاتحاد السوفييتي) ، وتجسد الثالث منذ عام 1949( هروب تشان كاي تشيك الى فرموزا ) ، ما يجمع هذه الصراعات الشاخصة حاليا وبقوة هو ” الحضور الامريكي فيها من ناحية ، وتحولها من نزاعات دولية( dispute) اي يجري البحث فيها بالطرق السلمية بداية الى صراعات(conflict) اي انها تجري بمواجهات عسكرية، ناهيك عن احد الاطراف او اكثر في كل نزاع من الثلاثة يمتلك سلاحا نوويا( اسرائيل في النزاع الاول ودول في حلف الناتو وروسيا والولايات المتحدة في النزاع الثاني والصين والولايات المتحدة في الثالث).
لكن الملاحظة التي لا بد من التركيز عليها هي ان ” نزاع المِلْكِية ” القاضي بأن كل طرف يدعي “احقيته ” في اقليم جغرافي معين مستندا لروابط تاريخية حقيقية او مفتعلة هو امر مشترك بينها كلها ، ففلسطين تنازع بين إدعاءات دينية بعضها حقيقي وبعضها مفتعل لاغراض سياسية ( اسلامية ويهودية)، وفي اوكرانيا نجد بوتين في مقاله المشهور (يوليو 2021) لا يرى اوكرانيا ( بعد عرض مفصل للتنازع على اوكرانيا بين بولندا وليتوانيا وروسيا والعثمانيين) الا جزءا من الارث المسيحي الارثذوكسي لما يسميهم ” الروس القدامى”الذين تجمعهم الروابط الآلية اولا مثل الارثذوكسية حتى القرن الخامس عشر والاصول السلافية واللغة الواحدة –الروسية القديمة-والروابط العضوية ثانيا كالترابط الاقتصادي والعلاقات الاقتصادية المشتركة التي امتدت مع الامراء ال” Rurik” ، بل ان بوتين يرى ان اسم اوكرانيا هو مفردة روسية(Okraina) والتي تشير الى حرس الحدود عند اطراف الدولة، واوكرانيا هي ضمن هذا السياق في رأيه ، لكن الطرف الآخر- الاوكراني الحديث والمعاصر يرى ان هذا الامر انتهى مع تحول امراء ليتوانيا في القرن الرابع عشر الى الكاثوليكية ،وتكرس قانونيا مع تفكك الاتحاد السوفييتي في ديسمبر 1991 والاعتراف باستقلال الجمهوريات المكونة له وانشاء رابطة الدول المستقلة، وبناء على مذكرة الضمانات الامنية في بودابست عام 1994 بدأت اوكرانيا في اعادة السلاح النووي الذي كان لديها لروسيا( حوالي 1800 رأس نووي) ،واكتملت الاعادة في عام 1996.
وإذا كان الصراع على فلسطين واوكرانيا قد دخل الى حيز العمل العسكري النشط ونقل كل منهما اقليمه الى دائرة الصراع والتدخل الدولي، فاني لا أرى احتمال نجاة كبير للصراع الثالث(تايوان) من الدخول الى مرحلة العمل العسكري، بخاصة ان الهيئات المركزية لصنع القرار الصيني اتخذت قرارا لا رجعة فيه وهو اعادة توحيد الجزيرة مع تايوان سلما او حربا باعتبارها جزء من الجغرافيا الصينية التاريخية.
كل ما سبق يدخلنا في سؤال محدد: أي هذه النزاعات الثلاثة هو الأكثر اهمية في الاستراتيجية الامريكية؟
من خلال مراجعتي لدراسات 19 مركز دراسات امريكي، و 3 استطلاعات راي امريكية، وعدد من التصريحات من المسئولين الامريكيين من خلال مواقعهم الالكترونية ، وجدت ما يلي:
أ- السمة العامة ان اغلب التوجهات تعلي من اهمية تايوان واوكرانيا على الحرب في الشرق الاوسط، ويبدو ان التفسير الاكثر وضوحا لهذا التوجه هو ان خصوم الولايات المتحدة في الشرق الاوسط “ليسوا دولا عظمى كروسيا والصين الخصمان في الصراع الاوكراني والتايواني” ويمكن تأجيل الفتك بهم لاحقا ،كما ان درجة اهتمام روسيا والصين بالنزاع في الشرق الاوسط اقل من عنايتهما بصراعهما المباشر مع الولايات المتحدة في النزاعين الآخرين.
ب- يميل اغلب المحللين الامريكيين الى ان نتائج اي من الصراع التايواني او الاوكراني له آثار اعمق على مكانة الولايات المتحدة الدولية من آثار الحرب في الشرق الاوسط
ت- عند مقارنة الحزبين الديمقراطي والجمهوري نجد ان الديمقراطيين يعطوا الترتيب من حيث الاولوية على النحو التالي: اوكرانيا اولا تليها تايوان ثم القضية الفلسطينية بينما الجمهوريون تتساوى لهم اهمية تايوان والشرق الاوسط وتتراجع بشكل واضح اهمية اوكرانيا .
ما دلالات ذلك؟
نرجح ان اسرائيل ستبذل كل جهودها وبكل الاساليب لفوز الجمهوري دونالد ترامب، وهو ما سيمثل دافعا لها لمهاجمة ايران، لكن فوز هاريس لا يمثل البديل الانسب لاسرائيل(رغم كل ما يفعله الديمقراطيون ، فالمقارنة هنا هي بين الجيد والأجود بالنسبة لاسرائيل). اما اذا فازت هاريس وهو احتمال ما زال مرجحا فان الولايات المتحدة قد تواجه بعض الاضطراب من انصار ترامب كما جرى في المرة السابقة وهو ما يشغل امريكا-مؤقتا- عن الهموم الدولية ومنها منطقتنا، ثم يجعل اسرائيل اقل رعونة نسبيا قياسا لو فاز ترامب…
اخشى ما اخشاه ، ان يتكرر ما جرى مع هيلاري كلينتون التي فازت على ترامب في التصويت الشعبي وبفارق كبير هو 2.2 مليون لصالحها ، لكن الكلية الانتخابية (المرحلة الثانية من الانتخابات عبر المندوبين ) قلبت النتيجة لصالحه في انتخابات نهاية 2016، وقد تسعى اسرائيل عبر اللوبي اليهودي وجماعات الضغط الانجليكانية(المسيحية الصهيونية) لقلب النتائج راسا على عقب عبر الكلية الانتخابية مرة اخرى لتكون المرة السادسة في التاريخ الامريكي الذي ينعس فيه التاريخ الانتخابي الامريكي ، ثم يستيقظ بعدها ليعود شاهرا سيفه في وجه الكون ليصنع “مهزلة او ماساة”..ربما.