الخطوة الإسرائيلية الأخيرة بتفجير آلاف أجهزة اتصال “البايجر” ما أدّى إلى سقوط عدد من الشهداء، بينهم أطفال، وآلاف الجرحى هي إنذار للعالم كله بأن إجرام هذا الكيان قد يصل إلى منزل كل من تتعارض مواقفه مع مواقف إسرائيل، ومن خلفها في الغرب. فبعد الذي حدث، من يضمن ألّا تقوم إسرائيل بتفخيخ بعض صادراتها المدنية لاستخدامها في حال نشوب توتر ما مع المستورد؟ عدوان “البايجر” أعاد التأكيد أن الكيان خطر على البشرية، وما قامت به مؤخّرًا بات متوقّعًا من أي طرف آخر، وفتح الباب نحو مرحلة جديدة من الصراعات يكون فيها المدني في منزله بخطر دائم.
عمل إرهابي أم جريمة حرب؟
بقراءة بسيطة لما حدث من منظور قانوني يمكن القول إن ما حدث يتراوح بين جريمة حرب وعمل إرهابي. تختلف النتيجة باختلاف تعريف المرحلة الحالية بين لبنان ودولة الاحتلال. فإن اعتبرنا أن لبنان يخوض حربًا مع إسرائيل، فإن استهداف المدنيين أو غير المقاتلين من خلال تفجير “البايجر” يشكّل انتهاكا لقوانين الحرب، وخاصة اتفاقيات جنيف التي تحمي المدنيين وغير المقاتلين من الهجمات.
تنص المادة 51 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف (1949) على حظر الهجمات العشوائية، بما في ذلك تلك التي تستهدف المدنيين، أو تفشل في التمييز بين المدنيين والمقاتلين. كما تسرد المادة 85 من البروتوكول الإضافي الأول الانتهاكات الجسيمة، مثل مهاجمة المدنيين، والتي تشكّل جرائم حرب. ولكي تكون المحاججة قانونيا سليمة علينا أن نعرّف من هو “المقاتل” بحسب القانون الدولي الإنساني، أو قانون الحرب.
بموجب القانون الدولي الإنساني، يُعرَّف المقاتل بأنه “عضو في القوات المسلحة لطرف في نزاع، باستثناء العاملين في المجال الطبي والديني، ولكي يُعتبر مقاتل يجب أن يكون تحت قيادة شخص مسؤول عن المرؤوسين، ويجب أن يرتدي علامة مميزة ثابتة يمكن التعرف عليها عن بعد (مثل بدلة عسكرية)، ويجب أن يحمل السلاح علنا. ومن ثم إن عدم توافر هذه الظروف يعني أن القانون الدولي الإنساني يعتبر كل من استُهدف في عدوان البايجر مدنيين.
كما أن العدوان الأخير ينتهك مبادئ التناسب والتمييز بموجب القانون الدولي الإنساني. فمبدأ التمييز ينص على التفرقة بين المقاتلين والمدنيين وهو ما تم تجاهله بالكامل في اعتداء “البايجر” والدليل هو سقوط أطفال شهداء. أما مبدأ التناسب، فيحظر الهجمات التي قد يكون فيها الضرر بالمدنيين مفرطا مقارنة بالميزة العسكرية المتوقعة. وإذا ما نظرنا إلى نتيجة العدوان الإسرائيلي نجد أن تأثيره العسكري محدود مقارنة بالضرر على المدنيين، وهنا القانون لا يستثني الضرر النفسي والمعنوي. وعليه فإن اعتماد إسرائيل استراتيجية العنف العشوائي خلال عدوانها الأخير على لبنان يُعتبر جريمة حرب.
أما إذا اعتبرنا أن لبنان لا يخوض حربا شاملة، بالمعنى القانوني للكلمة، وبحسب الاتفاقية الدولية لقمع الهجمات الإرهابية بالقنابل (1997)، يمكن تصنيف العدوان الأخير على أنه “أعمال تفجير إرهابية”. فالأداة المستخدمة هي أداة مدنيّة، وفُجِّرَت في مناطق مدنية، ومن الأهداف زعزعة الاستقرار. فتُعرّف المادة 2 من هذه الاتفاقية التفجيرات الإرهابية بأنها الاستخدام غير القانوني، أي استخدام خارج السلطة القانونية، للمتفجرات بقصد التسبب في الموت أو الإصابة الجسدية الخطيرة، واستهداف الأماكن العامة أو البنية الأساسية بهدف ترهيب السكان أو إرغام الحكومات.
كما أن إعلان الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن التدابير الرامية إلى القضاء على الإرهاب الدولي (1994) يحدد الإرهاب باعتباره أي عمل يهدف إلى التسبب في موت أو إلحاق أذى جسدي خطير بالمدنيين بغرض ترهيب السكان أو إجبار حكومة أو منظمة دولية على التصرف. وبناءً على هذا، فإن تفجيرات البايجر كانت تهدف إلى ترهيب اللبنانيين أو إرغامهم على تقديم تنازلات، وهو ما يتوافق مع تعريف الإرهاب بموجب القانون الدولي العرفي.
وقد أدانت نائبة رئيس الوزراء البلجيكية بترا دي سوتر الهجوم على أجهزة “البايجر” وقالت إنه “هجوم إرهابي”. كما كتب فولكر تورك، المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، في بيان أن الهجوم “ينتهك القانون الدولي لحقوق الإنسان، وإلى الحد الذي ينطبق عليه، القانون الدولي الإنساني”.
على الكوكب أن يخاف
العدوان الإسرائيلي بتفجير “البايجر” فتح الباب للنقاش حول العالم حول عدم أمان سلاسل التوريد. فما قامت به إسرائيل من تفخيخ للـ “البايجر”، وهذا السيناريو الأرجح، يؤكّد أن سلاسل التوريد لم تعد آمنة، وكما نجح الكيان بخرقها قد تتكرّر الحادثة مع أطراف أخرى وهو ما يفتح الباب نحو أزمة عالمية في حركة التجارة الدولية.
في الواقع، خطوة إسرائيل كبيرة جدًا بآثارها على سلاسل التوريد العالمية. ففي مقابلة تلفزيونية على تلفاز “الهند اليوم”، شاركت فيها بتاريخ 18 أيلول/سبتمبر، سُئل أحد المتخصّصين بالتقنية حول احتمالية أن تكون بعض الأجهزة الإلكترونية في الهند مفخّخة، فكان الجواب أنه بعض تفجير “البايجر” في لبنان يجب أن يتوقّع الجميع وجود قنابل موقوتة في منازلهم. إذًا خاطرت إسرائيل بفرض تغييرات على نظام التوريد العالمي، الذي لم يعد آمنا بنظر كثيرين، والسبب هو حجم الأذى المترتّب من مشاركة المقاومة في لبنان بدعم غزة منذ 8 تشرين الأول/أكتوبر الماضي.
ولذلك يجب على كل شعوب وحكومات العالم أن تخاف من الخطوة التي قامت بها إسرائيل. صحيح أن عملية اعتراض سلاسل التوريد لتحقيق مصالح أمنية وسياسية ليست بجديدة، بل تكرّرت على مر التاريخ، ولكن هذه المرّة الأولى التي يكون الهدف هو البيئة المدنية والمجتمع، وليس الحكومات والأنظمة. وهذا يؤكّد أن كل من يعارض الاستعمار والاستكبار، أو تتعارض مصالحه مع مصالح الكيان أو حتى مصالح أميركا قد يكون عرضة لهكذا هجمات، وإن كان جالسا في منزله يغرّد على وسائل التواصل. فمن فخّخ أجهزة “البايجر” قد يفخّخ وسائل اتصال أخرى إذا وجد أن في ذلك مصلحة له. فإسرائيل اليوم باتت خطرا على كل شعوب العالم، وعدم لجمها اليوم قد يؤسّس لمرحلة من الضربات الأمنية اللا محدودة حول العالم.
ومن المرجّح أن يكون لعدوان “البايجر” تأثير في صادرات الصناعات التقنية الإسرائيلية. فالبديهي هو أن الثقة بهذه الصناعات عالميًا سيتراجع إلى حد بعيد، فإسرائيل أثبتت من خلال عدوانها الأخير أنها قادرة ومستعدّة لتفخيخ أجهزة مدنية لتحقيق غايات سياسية، وهذا ما سيكون محور تفكير حكومات وشعوب العالم. وعليه فإن عدوان البايجر يعتبر نجاحاً تكتيكياً إسرائيلياً كبيراً مقابل فشل استراتيجي أكبر.
ففي عام 2023، شكّلت الصناعات التقنية العالية 20% من الناتج المحلي الإجمالي لإسرائيل. كما بلغ حجم الناتج الإجمالي في قطاع التقنية العالية في عام 2022، 290 مليار شيكل. وفي عام 2023، استحوذت صناعة التقنية العالية على 53% من إجمالي الصادرات من إسرائيل. وعليه فإن العدوان الأخير الذي من المتوقّع أن يضرب ثقة العالم بالصناعات التقنية الإسرائيلية سيشكّل ضربة كبيرة لاقتصاد الكيان على المدى الاستراتيجي.
مستجدّات قضية “البايجر”
بتاريخ 18 أيلول/سبتمبر، أصدرت شركة Gold Apollo، صاحبة العلامة التجارية للـ “البايجر” المتفجّرة، بيانا أوضحت فيه أنه في حين أن أجهزة النداء تحمل اسم علامتها التجارية، إلا أنها لم تشارك على نحو مباشر في تصنيعها. ووفقًا للشركة التايوانية، فإن الأجهزة المعنية، أجهزة النداء AR-924، أُنْتِجَت عن طريق شركة BAC Consulting KFT ومقرها بودابست، وهي وسيط تجاري مرخّص له باستخدام العلامة التجارية Gold Apollo. وأكدت شركة Gold Apollo أيضا أنها سمحت لشركة BAC فقط باستخدام علامتها التجارية لبيع المنتجات في مناطق محددة، وأن BAC كانت مسؤولة وحدها عن تصميم وتصنيع أجهزة النداء.
بعدها نشر زولتان كوفاكس، المتحدث باسم الحكومة المجرية، على X أن المجر ليس لديها علم بتصنيع أجهزة النداء داخل البلاد. وبحسب كوفاكس، لا تدير شركة BAC Consulting KFT موقع تصنيع أو تشغيل في المجر، ولديها مدير مسجل واحد فقط، ولم تكن الأجهزة المعنية موجودة في البلاد من قبل.
بالإضافة، نفت كريستيانا بارسوني أرسيداكونو، الرئيسة التنفيذية لشركة BAC Consulting، أي تورط في الإنتاج الفعلي لأجهزة النداء. وفي مقابلة مع NBC News، أوضحت أن شركتها لم تصنّع أجهزة النداء، قائلة “أنا لا أصنع أجهزة النداء. أنا مجرد وسيط”.
وعلى الرغم من الادعاءات المتضاربة، أكدت وزارة الشؤون الاقتصادية التايوانية أنه من أوائل عام 2022 إلى آب/أغسطس 2024، قامت شركة Gold Apollo بتصدير 260 ألف جهاز نداء، مع شحن أكثر من 40 ألف وحدة بين كانون الثاني/يناير وآب/أغسطس 2024. وأضافت الوزارة أن أجهزة النداء صُدِّرَت في المقام الأول إلى الدول الأوروبية والأميركية، دون تسجيل أي صادرات مباشرة إلى لبنان.
وفي ظل هذه التصريحات المتضاربة، لا يزال المنشأ الأساسي وعملية إنتاج أجهزة النداء AR-924 غير واضحة، مما يثير المزيد من الأسئلة حول الدور الوسيط الذي لعبته BAC في سلسلة التوريد. إلا أن الثابت هو أن إسرائيل أعلنت دخول مرحلة جديدة من الصراع.
فالعدوان الإرهابي هو جزء من مسار جديد افتتحته إسرائيل ضد لبنان. الأهداف الإسرائيلية من هذا المسار هي إجبار المقاومة على وقف جبهة المساندة، وفرض قواعد جديدة لصالح الكيان على الجبهة الحدودية يكون الردع لصالحه فيها، ويستطيع من خلال هذه القواعد تغيير الواقع بعد حرب غزة لتراعي مخاوفه الأمنية. في هذا المسار يقوم الكيان بتفعيل كل ورقة بحسب مقدار تفاعل المقاومة مع نتيجة الورقة التي قبلها. أي إذا أصرّت المقاومة على استكمال جبهة الإسناد، وردت على ما حصل في اليومين الماضيين لمنع الكيان من السيطرة على سلّم التصعيد إذًا ستستخدم إسرائيل ورقة جديدة، والتي قد تشمل خطوات عسكرية أو أمنية تقنية لرفع التكلفة بشكل تتوقّع أن يؤدّي إلى كسر إرادة المقاومة وبيئتها. وما كان من بيان الحزب الثاني بعد عملية تفجير “البايجر” إلا التأكيد على أن الرد آت وقرار المواجهة لا عودة عنه. فمحور المقاومة حمل على عاتقه العمل على تخليص العالم من الإجرام الإسرائيلي الذي بات تهديدا للجميع.