أحلام بيضون
استعصت حالتها على الوصف، تلك القابعة على حافة المتوسط، النابضة بكل ألوان الانفعالات، المصدرة أنينها وعنفوانها للعالم. غزة، تلك الأنثى معبودة الملك صور، وهل لكم معرفة بصور، صور الفينيقية، المسماة على اسمه، صور مع أختها صيدا، التي قبعت تحت حصار الإسكندر كما هي حالة غزة اليوم، واستعصت على الفتح إلا منتصرة بإحدى الحسنيين. ما أشبه اليوم بالأمس، فحكايات البطولة لا تنتهي. ولكن هل كان الإسكندر دمويا إلى الحد الذي هي عليه عصابة اللقطاء اليوم؟ لا أظن ذلك، فمهما صور لنا التاريخ من طغاة، لن يصلوا إلى مستوى ما هي عليه عصابة المجرمين الصهاينة من حقد وبرودة أعصاب في التدمير والقتل.
غزة اليوم أمثولة الدم والنار، شعب مستعصي على الرضوخ أو الانقياد، لا يمكن تمييز المدني من المقاتل فيها، وكيف يمكن ذلك، والعائلات الغزية هي من أنشأت أولادها ووهبتهم مشاعل نار ونور.
كم مثير للسخرية القول إنهم يريدون القضاء على حماس، وأن لا شأن لهم بالمدنيين. والحقيقة أنه لا يمكن فصل هؤلاء عن ألائك. العدو يعرف ذلك تماما، ويعرف أن هذا الشبل من ذاك الأسد، لذا فهو يجهد في أعمال الإبادة والتنكيل والقهر ضد سكان القطاع، المقفل من جهاته الأربع وحتى من السماء، ولم يبق له إلا منفذ واحد نحو العمق. نعم نحو العمق، الانغراس في التراب شهداء أحياء عند ربهم يرزقون، أو مقاتلين يحولون بأيديهم آلات قتل العدو سلاحا يقتلع عيونه، ويجعله فاقد البصيرة والبصر.
لم يخطء سيد المقاومة حسن نصر الله حين ركّز في إحدى خطبه على البصيرة. نعم إنها البصيرة التي افتقدها الغازي المحتل، حيث ظن أن بإمكانه فعلا أن يقتل ما استطاع من الفلسطينيين، وأن يطوّع الباقين، وينسيهم أنهم فلسطينيون اقتلعوا من أرضهم وبيوتهم ولا زالوا يحملون مفاتيحهم، أو تمسكوا بالأرض رغم أنهم يعرفون حقد ذلك المحتل وأهدافه اللعينة، الشيطانية.
الفلسطينيون، أطفالا وشيوخا ونساء، قادة وعامة، لديهم نفس الصرخة، ونفس الهدف يقبضون عليه كالقابض على الجمر، لا يتركونه أبدا، فكما قال الشهيد القائد إسماعيل هنية: “جهاد جهاد، نصر أو استشهاد”.
يسميهم المجرم نتن ياهو بالعماليق، ويسترجع نصوص الشعوذة الدينية، ولا أقول التاريخية، لما حصدوا من تزوير، وقد صدق عديم الأصل ذاك حين استرجع ذلك التوصيف، فالفلسطينيون عماليق، وأنّ للصعاليك بدون آلة التدمير والإجرام أن يقدروا على هزيمة “شعب الجبارين”، كما كان يردد الشهيد أبو عمار.
إن من يحلم بهزيمة الشعب الفلسطيني هو مخبول عديم البصيرة، فحتى اليوم منذ أكثر من 75 سنة، ورغم الجرائم المتمادية ضدهم، لم يتمكن الصهاينة من هزيمتهم. لا زال الفلسطينيون يرفضون الاعتراف بالأمر الواقع، المتمثل بإحلال عناصر أجنبية في وطنهم بدلا عنهم، ولا زالوا يقاومون، بكل ما أعطوا من وسائل: الكلمة، اللوحة، وكل أشكال التعبير، إلى الحجر والعصا والسكين، والقنبلة والصاروخ، إلى الأسر، والتهجير والتنكيل والتجويع، إلى المقاومة القانونية.
أيها الشعب الفلسطيني البطل أينما كنت، في الخارج أو الضفة أو القدس، وفي غزة المجيدة، حيث تغلق عليك المنافذ من الجهات الخمس، أنت لن تهزم أبدا، معركتك مستمرة، مع كل الأحرار في العالم، خاصة في الجوار، وستكون حربك حرب استنزاف، تستنزف قدرات العدو، وتعيد الحق لأصحابه، وإنه ليوم قريب، “يرونه بعيدا، ونراه قريبا”، ومن وعد بالصلاة في المسجد الأقصى لن يخيب آمال الشعوب العربية التي تنتظر التحرير.
أحلام بيضون
بيروت، في 15/8/2024