ورقة قانونية
مؤسسات القضاء الدولي:
الضغوط الامريكية وتحدي تحقيق العدالة
تواجه مؤسسات القضاء الدولي والعدالة الدولية بشكل عام تحديات كبيرة تعيق قيامها بدورها المفروض بموجب أنظمتها التأسيسية، فالصعوبات التي تواجهها محكمة العدل الدولية (محكمة مختصة بالنظر في النزاعات بين الدول) هي ذاتها التي تعاني منها المحكمة الجنائية الدولية (محكمة متخصصة بالنظر في الجرائم الدولية التي يرتكبها الافراد)، على الرغم من الاختلاف بين المؤسستين في الاختصاص وتقاربها في الأهداف (أي تحقيق العدالة الدولية من أجل الحفاظ على الامن والسلام الدوليين).
يبدو الهم المشترك بين المؤسستين هو ذاته، وهو مواجهة ضغوط وتهديدات القوى الغربية المهيمنة وعلى رأسها الولايات المتحدة.
1. التهديد الأمريكي لمؤسسات القضاء الدولي
أ) إضعاف وتقييد دور محكمة العدل الدولية
لطالما كانت علاقة الولايات المتحدة متوترة مع محكمة العدل الدولية، التي تتولى في المقام الأول التحكيم في النزاعات القانونية بين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة التي تعترف بولايتها القضائية. وانسحبت الولايات المتحدة من الاختصاص الإلزامي للمحكمة في عام 1986 بعد أن قضت المحكمة بأنها مدينة لنيكاراغوا بتعويضات الحرب. كما اختلفت الولايات المتحدة مع موقف المحكمة بأنها فشلت في الوفاء بالتزاماتها بموجب اتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية في عام 2005 في قضايا تتعلق بمواطنين مكسيكيين ينتظرون تنفيذ حكم الإعدام. صرّح القاضي جوان دونوغو، العضو الأمريكي السابق في المحكمة: “كانت هناك دائمًا علاقة صغيرة من الحب والكراهية” بين الولايات المتحدة ومحكمة العدل الدولية. ومع ذلك، فإنها تشير إلى أنه في الآونة الأخيرة، زادت الولايات المتحدة من مشاركتها مع محكمة العدل الدولية خاصة فيما يتعلق بالأفراد الذين يواجهون عقوبة الإعدام في الولايات المتحدة. وتقول إن الولايات المتحدة تبذل جهودًا كبيرة للامتثال، على الرغم من العقبات الخطيرة داخل نظامها الدستوري.
تبقى العلاقة بين الولايات المتحدة ومحكمة العدل الدولية رهينة المصالح والظروف التي تراها الإدارة الامريكية مخالفة لسياساتها في التعامل مع قضاة محكمة العدل الدولية. بالمقابل تستفيد الولايات المتحدة وحليفها الإسرائيلي من ضعف قدرة محكمة العدل الدولية على انفاذ قراراتها خاصة فيما يتعلق بتهمة الإبادة الجماعية التي وجهت للكيان الصهيوني من خلال الدعوى التي رفعتها جنوب افريقيا والتي انضم اليها العديد من الدول (الأعضاء في الأمم المتحدة) في سابقة قضائية رغم غموض الصياغة لم تعهدها المحكمة منذ تاريخ تأسيسها.
ب) التهديد بالقانون والعقوبات ضرب للمحكمة الجنائية الدولية
إن عداء الولايات المتحدة للمحكمة الجنائية الدولية ليس بالأمر الجديد، فهي تدعم المحكمة فقط عندما يناسب ذلك المصالح الأمريكية. فبعد أن حرص بيل كلينتون على إضفاء طابع القبول للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية جاء جورج بوش الابن بعده فأسقط القرار وسحب الاعتراف بالمحكمة في سابقة دستورية لم يعهدها النظام السياسي الأمريكي سابقا. وبعد دخول النظام الأساسي للمحكمة الجنائية حيز التنفيذ في 2002، عقدت جلسة في الكونغرس الأميركي لإقرار قانون “حماية أعضاء الخدمة الأميركية” يوم 30 يوليو/تموز 2002، الذي أطلق عليه “قانون غزو لاهاي” أكد فيها كبير مفاوضي الولايات المتحدة السفير ديفيد شيفر أن الولايات المتحدة لم توقع على الميثاق لعدم تحقق أهداف تفاوضية حاسمة بالنسبة لها، وبيّن أن “الميثاق يهدف إلى إنشاء ترتيبات تمكن بموجبها محاكمة القوات المسلحة الأميركية العاملة في الخارج أمام المحكمة حتى لو لم توقع الولايات المتحدة على الميثاق”.
اتخذت إدارة ترامب موقفا أكثر تشددا، غاضبة من سعي المدعي العام فاتو بنسودا للتحقيق مع القوات المسلحة الأمريكية وموظفي وكالة المخابرات المركزية بشأن جرائم حرب محتملة في أفغانستان، وكذلك من تحقيقها الأولي في الجرائم الإسرائيلية المزعومة في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة. وصادق ترامب على قانون بعنوان “حجز ممتلكات بعض الأشخاص المرتبطين بالمحكمة الجنائية الدولية” في تهديد واضح للقضاة في المحكمة الجنائية الدولية. ويعود ذلك جزئياً إلى التطورات في تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية في الجرائم المزعومة المرتكبة في أفغانستان، والتي كانت المرة الأولى التي تحقق فيها المحكمة في جرائم محتملة ارتكبتها القوات الأمريكية.
يشبه نهج الرئيس بايدن تجاه المحكمة حتى الآن موقف أوباما الأكثر تعاونًا. وفي عام 2021، بعد وصول المدعي العام الجديد للمحكمة الجنائية الدولية خان، أسقطت المحكمة فعليًا تحقيقاتها مع الموظفين الأمريكيين في أفغانستان. وكان بايدن أيضًا من بين العديد من قادة العالم الذين أشادوا علنًا باتهام المحكمة الجنائية الدولية لبوتين. وأمر الحكومة الأمريكية بمشاركة الأدلة على جرائم الحرب الروسية مع المحكمة في عام 2023. ومع ذلك، أعربت إدارته عن قلقها بشأن التحقيق في الأراضي الفلسطينية. ووصف بايدن مذكرة التوقيف الصادرة عام 2024 بحق المسؤولين الإسرائيليين بأنها “شائنة”، وأكد مجددًا أن الولايات المتحدة “ستقف دائمًا إلى جانب إسرائيل ضد التهديدات التي يتعرض لها أمنها”.
2. ضرب مصداقية القضاء الدولي: بين الانتقائية والشكوك
أ) ما قبل طوفان الاقصى: عدالة انتقائية ذات معايير مزدوجة
بعد أيّام قليلة من إعلان المحكمة صلاحيّتها للنظر في الجرائم المرتكبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، انتُخب المحامي البريطاني كريم خان في 12 شباط 2021 مدّعيًا عامًا لدى المحكمة، ليخلف المدعية العامة السابقة فاتو بينسودا التي فرضت عليها إدارة ترامب عقوبات في العام 2020 على خلفية تحقيقاتها في فلسطين وأفغانستان، ورفعتها إدارة بايدن في العام الذي تلاه.
ومنذ انتخابه إلى ما قبل 7 أكتوبر، شهد الملفّ الفلسطيني لدى المحكمة ركودًا لم يحرّكه تقديم عدد من منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية أدلةً وتقارير هامّة للمدّعي العام، ودعوتهم إيّاه مباشرة تحقيقه وإصدار أوامر لتوقيف المشتبه فيهم وتحقيق العدالة للضحايا الفلسطينيين. تزامن هذا الجمود، مع فتح المدعي العام تحقيقًا بشأن الوضع في أوكرانيا في آذار 2022، وذلك بعد أن تقدّمت 34 دولة أعضاء في المحكمة بطلب التحقيق في الجرائم المرتكبة داخل أوكرانيا بعد الاجتياح الروسي. وزار خان أوكرانيا أكثر من مرّة، كما أرسل فريقًا من عشرات المحققين للتحقيق في الحالة، لتصدر الدائرة التمهيدية الثانية في المحكمة، مذكّرة توقيف بحقّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مع العلم أنّ روسيا وأوكرانيا ليستا طرفين في نظام روما الأساسي. هذا التحرّك السريع والنشيط والفعّال في الملف الأوكراني من قبل المدعي العام لديها، أثار قلق عدد من الحقوقيين ومجموعات حقوق الإنسان، التي التمست ازدواجية في المعايير في التعاطي مع الملفات المطروحة أمامها، ونيّة في تجميد الملف الفلسطينيّ.
ب) ما بعد طوفان الاقصى: تزايد الشكوك حول النزاهة
لم يرتقِ أداء المدّعي العام إلى المستوى المتناسب مع هول الإبادة التي تنفّذها “إسرائيل” بحقّ الفلسطينيين، حتّى بعد صدور قرار محكمة العدل الدولية في 26 كانون الثاني 2024 الذي أقرّ بوجود خطر الإبادة. فبعد خمسة أيّام على عملية 7 أكتوبر، أكّد كريم خان أنّ “لديه الصلاحية للتحقيق في الجرائم المرتكبة من قبل فلسطينيين على الأراضي الإسرائيلية”، كون فلسطين انضمّت إلى نظام روما. وقد شدّد خان أيضًا في تصريحه أنّه شكّل فريقًا للتحقيق في قضية فلسطين بعد تولّيه منصبه، وأنّ مكتبه لا تتوّفر لديه الموارد الكافية للتحقيق في جميع القضايا إذ يعود للدول أن تقدّم له الأدوات اللازمة لذلك. ولكن الانحياز الفاضح لخان تجلّى في زيارته إلى “إسرائيل” والضفة الغربية في أوائل كانون الأوّل 2023، بناء على دعوة عائلات الضحايا الإسرائيليين، علمًا أنّ إسرائيل ليست طرفًا في نظام روما. فعَكَس بيانه عقب هذه الزيارة أداءً غير مهنيّ وغير محايد تجاه الجانب الفلسطيني، ومحابيًا للجانب الإسرائيلي. وتجلّى ذلك في وصفه قوى المقاومة الفلسطينية، ومن ضمنها “حماس”، بأنّها “منظمات إرهابية”، علمًا أنّ مصطلح الإرهاب لا وجود له في نظام روما الأساسي أو في القانون الدولي الإنساني وأنّ الشعوب المحتلّة، كالشعب الفلسطيني، لها الحقّ في مقاومة الاحتلال، بما فيها المقاومة المسلّحة، لمواجهة انتهاك حقّها في تقرير مصيرها.
اتسّعت دائرة الشكّ التي تحيط بخان بعد تعيينه مؤخّرًا المحامي البريطاني أندرو كيلي للإشراف على التحقيق حول فلسطين بدءًا من آذار 2024، وهو المدعي العام العسكري البريطاني السابق الذي أدّى دورًا رئيسيًّا في قرار المدّعية العامّة السابقة للمحكمة بإغلاق التحقيق في ملف ارتكابات جنود بريطانيين خلال احتلال العراق. وفي مقابل اعلان المدعي العام لدى المحكمة الجنائية الدولية عن مذكرا اعتقال بحق قادة إسرائيليين وقادة من حركة المقاومة الفلسطينية، جاء في رسالة أمريكية موجهة إلى خان والتي نشرها السيناتور عن ولاية فلوريدا، ريك سكوت، عبر صفحته الموثقة على “إكس”، تويتر سابقا: “نكتب لك بشأن التقارير الخاصة بأن محكمة الجنايات الدولية قد تنظر في إصدار مذكرات اعتقال دولية بحق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ومسؤولين إسرائيليين آخرين. نعتبر مثل هذه الخطوات غير شرعية ونرى أنها تفتقر للأسس القانونية، وإذا تم إقرارها، سينتج عنها عقوبات قاسية بحقك وبحق مؤسستك”. وأشار المشرعون الموقعون على هذه الرسالة إلى أن إصدار مذكرات اعتقال بحق قادة إسرائيليين “لن يكون غير مبرر فحسب بل سيكشف نفاق المؤسسة (المحكمة) ومعاييرها المزدوجة”. وحذر السيناتورات من أن إصدار مذكرة الاعتقال المحتملة ضد القادة الإسرائيليين لن يُفسر كـ “تهديد لسيادة إسرائيل فحسب بل لسيادة الولايات المتحدة الأمريكية أيضا”. وختم المشرعون الأمريكيون بالقول: “الولايات المتحدة لن تتسامح مع الهجمات المسيسة ضد حلفائها من جانب المحكمة الجنائية الدولية”، وأضافوا: “استهدفوا إسرائيل وسنستهدفكم”، وواصلوا تهديداتهم في الرسالة بالقول: “إذا مضيتم قُدما بالإجراءات المذكورة في التقارير سنتحرك لإيقاف الدعم الأمريكي للمحكمة بشكل كامل، ولفرض عقوبات على موظفيكم والمتعاونين معكم، وسنحرمكم وعائلاتكم من دخول الولايات المتحدة.
ليس من الغريب أن يهاجم الكيان الصهيوني وتحديدا ناتنياهو المحكمة، لكن الغريب بالنسبة للمجتمع الدولي أن تهاجم الولايات المتحدة وخاصة نوابها بإصدار المواقف غير المسؤولة التي هدفها اسقاط المحكمة ودورها في تحقيق العدالة المنشودة. فخلافا لمواقفهم المؤيدة للمحكمة فيما يتعلق ببطاقة الجلب الصادرة في حق الرئيس الروسي وعدد من المسؤولين الروس، نراهم اليوم يشككون في مصداقية الخطوة التي اتخذها الادعاء بحق ناتنياهو وحكومته وقادته العسكريين.بالتأكيد أنّ الحلم بالحصول على عدالة حقيقية تؤمن محاسبة المجرمين والقتلة كبير، لكن تنفيذه رهين تكاتف الجهود الدولية-خاصة من هؤلاء الذين يؤمنون حقيقة بدور القضاء الدولي ومنهجيته، والذين يتمسكون بضرورة عدم تسييس قرارات المحاكم الدولية والاهم من ذلك، تحريرها من الهيمنة الأمريكية.
ربما أصبح لزاما على المجتمع الدولي الذي يدعي الحرص على حقوق الانسان والسلم والامن الدوليين، أن يقف وقفة حقيقية مع الحكومات التي تؤيد العدالة الدولية، التي أصبحت في الميزان اليوم بما تبقى لها من وجود عملي ومصداقية مربكة، ومع المنظمات والوكالات الإنسانية الدولية والمنظمات غير الحكومية والناشطين والحقوقيين حول العالم، إلى مساندة المحكمة الجنائية الدولية وعملها وموظفيها ومسؤوليها، في تحقيق المهام والواجبات المنوطة بهم، وإدانة كافة التهديدات بالانتقام، من العاملين في المحكمة، بهدف التأثير على حيادية واستقلالية المحكمة الجنائية الدولية. ربما المجتمع الدولي مطلوب منه مضاعفة الجهود من اجل إنهاء سياسة الإفلات من العاقب، من اجل محاسبة جنائية دولية شفافة ونزيهة، عن كافة الانتهاكات المرتكبة ضد المدنيين وجبر ضرر الضحايا وإنصافهم.