مازن النجار | من المؤشرات الدالة على تأزم المشروعات الاستيطانية ودخولها طور النهاية والتفكك، هو ارتكابها قدراً هائلاً من العنف والتدمير وإلحاق الأذى الواسع النطاق بالسكان الأصليين؛ وقد وصل ذلك بالفعل إلى حدّ الإبادة الجماعية والتدمير الشامل.على أن هذا السلوك الاستيطاني يترافق مع حالة ارتباك شديد وسعي خلف أهداف متعارضة، بل متناقضة، تفاقم من أزمة الكيان الاستيطاني وتشقّقاته الداخلية وسقوط الشرعية عنه وتصاعد الدعوات عالمياً إلى مقاطعته وسحب الاستثمارات منه وفرض العقوبات عليه. وفيما أظهر طوفان 7 أكتوبر، وما تلاه من عدوان إسرائيلي على قطاع غزة، عدم جدوى محاولة استعادة الردع واستئصال المقاومة، انتقل المشروع الاستيطاني من العنف والتدمير إلى عنف عبثي جنوني يرقى إلى الإبادة.
استراتيجية إسرائيل الانتحارية
في مقال لافت أثار اهتمام المراقبين أخيراً، حمل عنوان «استراتيجية إسرائيل الانتحارية»، للكاتب في صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية اليمينية المؤيّدة لإسرائيل، رينو جيرار، قال الكاتب إن إطالة إسرائيل حربها على غزة تمثل انتحاراً للغرب، ذلك أنها تقدّم هدية لفلاديمير بوتين ودليل يومي على ازدواجية المعايير الأخلاقية لدى الغرب. وأضاف رينو جيرار أنه يجب أن تكون لدينا الجرأة على القول إن هذه الصهيونية الغازية تُعدّ انتحارية لإسرائيل والغرب الداعم لها، على اعتبار أن فرصة قبول استراتيجية الطرد القسري لأحفاد السكان الذين عاشوا لعدة قرون في فلسطين، ضئيلة للغاية لدى جيران إسرائيل القريبين والبعيدين. وفي ذلك وصفة مثالية للحرب الأبدية. وحتى الولايات المتحدة قد تتعب يوماً ما من غطرسة اليمين الإسرائيلي الذي يحرم الفلسطينيين من الحق في تشكيل أمة.
يقول رونين بيرغمان في كتابه «انهض واقتل أولاً: التاريخ السري لإسرائيل» إن مبدأ القتل الجماعي والإبادة لا ينفصل عن العقيدة الراسخة في عقل الدولة الإسرائيلية منذ قيامها وحتى الآن. وقد جمعت مسؤولة إسرائيلية بين العنف والإنكار والإبادة في تصريح ترفض فيه قيام دولة فلسطينية، قائلة: «وهل لا بد أن يوجد فلسطينيون أصلاً؟!»، فيما باتت فكرة الانتحار الإسرائيلي تتردّد كثيراً، بصوت مرتفع وغير مسبوق في الغرب، حتى لدى الصهاينة وأنصارهم مع استمرار حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة بعد زلزال 7 أكتوبر 2023.
عدمية أميركية
في سياق متصل، يخلص المؤرّخ الفرنسي إيمانويل تود، في كتابه الجديد «هزيمة الغرب»، إلى أن نمط الوعي الناجم عن الردة الدينية وانهيار المنظومة الأخلاقية الغربية أنتج «عدمية أميركية»، أهم تعبيراتها: حروب بلا نهاية وعنف عدمي وتأليه العدم! ولا تقتصر العدمية الأميركية على رغبة جارفة في التدمير، بل ثمة رغبة في إنكار الواقع أيضاً، لم يعُد من أثر للدين في سلوكها ورؤيتها. تحفّز هذه العقلية تصعيد الحروب الخارجية، وحرب الإبادة الراهنة في غزة أحدث مثال على ذلك.
وإذ رصد تود مستويات العنف والعدمية الأميركية غير المسبوقة، وعنون الفصل الأخير في كتابه الصادر في كانون الثاني الماضي بـ«العدمية الأميركية: دليل غزة»، فهو يرى هذه العدمية في «دعم الولايات المتحدة غير المشروط لإسرائيل»، والذي اعتبره «أعراضاً انتحارية لأميركا المندفعة نحو العنف». ويلفت تود إلى أن الهزيمة الأميركية التي تلوح في حرب أوكرانيا دفعت أميركا إلى «الهروب» إلى دعم إسرائيل في غزة، أملاً في كسب أي حرب، وأن موقف إدارة بايدن المتعطش للحرب والممتد من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط، أعطى روسيا، التي لا تزال في حالة حرب، إمكانية الظهور كقوة سلام!
ربّ العهد القديم!
الخطير في ديباجات (وأيديولوجية) الاستيطان التي أسّست فكرة «أميركا»، وهي الترجمة الإنكليزية لفكرة «إسرائيل الأسطورية»، أنها ترتكز على 3 عناصر: احتلال أرض الغير؛ واستبدال شعب بشعب؛ واستبدال ثقافة بثقافة وتاريخ بتاريخ، علماً أن كل عنصر من هذه العناصر إبادة قائمة بذاتها. تطورت هذه «الأيديولوجية» عبر مراحل التاريخ الأميركي، وصولاً إلى «الدين المدني» الراهن الناشئ عن أيديولوجية المستوطنين «البيوريتان» الأوائل، والذي يكرّس فكرة أن «ربّ العهد القديم» هو المرجع الأعلى! وقد امتلأ خطاب الاستيطان الأميركي بتعبيرات من مثل: أرض الميعاد وميثاق الربّ وشعب الله المختار والاستكشاف وارتياد التخوم والغزو وإبادة السكان الأصليين. وصاحب ذلك اعتقاد بفرادة تاريخية لتجربة الاستيطان وأنها جزء من أجندة الرب وأن أميركا بتعبير الكتاب المقدس «مدينة على جبل» وفنار أو «منارة الأمم»!
في الغرب، لم يجدوا أخلاقاً تناسب الاستعمار والاستيطان في جنوب أفريقيا وروديسيا (زيمبابوي) والإبادات، إلا في العهد القديم (التوراة). وفي جنوب أفريقيا، تمّت صياغة جزء كبير من القومية الأفريكانية (قومية الأقلية البيضاء الهولندية البريطانية) حول فكرة العهد أو الميثاق الخاص بين الرب وجماعات الاستيطان المبكر.
من العنف والردع إلى الإبادة
عندما تدخل المشروعات الاستيطانية طور النهاية والتفكك، تتصاعد مستويات العنف الهائل والتدمير الواسع النطاق ضد السكان الأصليين؛ وقد وصل ذلك بالفعل إلى حدّ الإبادة الجماعية، كما حدث أواخر أيام الاستعمار الفرنسي في الجزائر ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، ويحدث الآن في قطاع غزة والضفة الغربية. يقدّر خبراء أن كمية القنابل والمتفجرات التي ألقيت على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر الماضي، تعادل قوتها التدميرية عدة قنابل ذرية كالتي ألقيت على هيروشيما وناغازاكي، مع أكثر من 2800 مجزرة في أقل من 6 أشهر. وهذا يحيلنا إلى عقيدة القوة والعنف والردع الانتحارية: «ما لا يتحقق بالقوة، يتحقق بمزيد من القوة!». ومن عناصر عقيدة القوة والعنف والردع الإسرائيلية: «كيّ الوعي» و«جزّ العشب» و«الأسوار العالية»، علماً أن مصطلح «كيّ الوعي» صكّه رئيس الأركان الإسرائيلي الأسبق موشيه يعلون (بوغي)، ويتم باستخدام قوة باطشة وسياسات عقاب جماعي واستهداف المدنيين في أرواحهم وأرزاقهم وحياتهم اليومية، لإيصالهم إلى ما يشبه «العجز المكتسب بالتعلم». والقصد من هذا أن ينصرف تفكير الشعب الواقع تحت الاحتلال، بعيداً من فكرة التحرر من الاحتلال، نحو استبعاد فكرة المقاومة نهائياً، فيما تُقرّ إسرائيل بأن نجاحها في «كيّ وعي» الفلسطينيين يظل محدوداً، رغم تبجّحها بقدرتها على ردع دول وتنظيمات.
وضمن استراتيجية «جزّ العشب»، يكرّس الكيان الاستيطاني جهداً هائلاً لاحتكار العنف ومراكمة أدواته وحرمان المقاومة من التنظيم والتسلح والتدريب بالقمع المستمر والاجتياحات والاغتيالات والاعتقالات الواسعة، على غرار ما يفعل في مدن وبلدات ومخيمات الضفة الغربية. وفي سياق الردع وترميم الردع، لا تتعامل إسرائيل مع جيرانها وفق النوايا والأفعال، بل وفق قدراتهم، وتقوم بإجهاضها تباعاً قبل بلوغها مستوى التهديد.
منذ عقدين، أقامت إسرائيل جدار الفصل العنصري الذي يفصلها عن الضفة الغربية بعد اغتصاب كثير من أراضي الضفة وتقييد حركة السكان وتحويل حياتهم إلى جحيم، وقد حكمت «محكمة العدل الدولية» ببطلانه وعدم شرعيته. كما أقامت إسرائيل وتقيم أسواراً أخرى حديدية وإسمنتية وإلكترونية مزوّدة بقدرات تجسس ورصد فائقة على الحدود مع لبنان وقطاع غزة ومصر والأردن، وقد برّر بنيامين نتنياهو ذلك بقوله: «إذا لَمْ تُغلق إسرائيل حدودها الشرقيَّة، فلَنْ تظلَّ دَولة يهوديَّة». وكان المهاجرون الأوروبيون إلى أميركا الشمالية وغيرها قد أحاطوا مستوطناتهم بالجدران والأسوار العالية، وهكذا الكيان الاستيطاني في إسرائيل يحيط نفسه من كلّ الجهات بجدران وأسوار عالية، يتحصّن خلفها كأي تشكيل من عصابات السطو المسلح، ويكرّس الفصل العنصري، كدَولة مارقة تأسّست بالعنف، من دون وجه حقٍّ، على حساب شَعبٍ آخر، هو صاحب الأرض.
لا حلّ إلا بالإبادة الشاملة؟!
يمر الكيان الاستيطاني الصهيوني في فلسطين بالأزمات نفسها التي مرت بها مشروعات استيطانية سابقة، فشلت في القضاء على الشعوب الأصلية للبلاد التي قامت فيها، قبل أن تأخذ سبيلها نحو التفكك والانهيار. وبحكم طبيعة مشروعات الاستيطان، يطمس هذا الكيان إنسانية شعب فلسطين، وينكر وجوده وتاريخه وحقه في تقرير المصير، ويستديم قدراً هائلاً من عنف ومجازر التأسيس والردع. لا يمكن لإسرائيل استعادة الردع الذي توهّمته أو تبجّحت به، ولذلك هي تمارس الإبادة الجماعية الشاملة؛ فهي لا تعاني «تآكل» الردع بل انهياره تماماً، ولا مفر أمام هذا الكيان الاستيطاني من مصير المشروعات الاستيطانية التي تفكّكت وانهارت. وهكذا، تبدو لحظة العنف الإسرائيلي البالغ حدّ الإبادة «لحظة نموذجية» لفهم سيرورة ومآلات مشروعات الاستيطان، وهي تمثل مساراً وحيداً نحو حل نهائي لأزمة الاستيطان الصهيوني المزمنة: الوجود الفلسطيني والمقاومة. لكنّ مأزقه المستعصي هو عقم استخدام الإبادة ضد غير القابل للإبادة!
عندما عُرض فيلم توثيقي (حصري) لأعضاء «الكنيست» عن حدث 7 أكتوبر، أغمي على بعضهم من هول الصدمة؛ لكن في لحظة نادرة، وبعد مشاهدة العنف العدمي الذي أوقعته آلة الحرب الإسرائيلية على (الرهائن) من مستوطني غلاف غزة، قال يائير لابيد، زعيم المعارضة في «الكنيست»: «إسرائيل ليست دولة أخلاقية، وليست قوة إقليمية، ولن تنتصر في الحرب»!