تأثيرات (حرب غزة) تَعمُّ المنطقة والإقليم والعالم، بقلم: اللواء د. محمد أبوسمره

ــ المقدمة:
قطاع غزة عبارة عن شريط ساحلي ضيق للغاية، يتفاوت عرضه من منطقة إلى أخرى، من ٦ إلى ١٢ كيلومتر، بطول ٤٥ كيلومتر، ومساحته الحالية الإجمالية٣٦٥ كيلومتر مربع، ويعتبر قطاع غزة من أكثر الأماكن على مستوى العالم كثافةً سكانية في الكيلومتر المربع الواحد، حيث يصل متوسط عدد السكان إلى أكثر من عشرة آلاف نسمة في الكيلو متر المربع الواحد، بينما تتضاعف هذه النسبة عدة مرات داخل مخيمات اللاجئين الثمانية والمربعات والأحياء والمشاريع الإسكانية الخاصة باللاجئين الفلسطينيين والتي هي امتداد طبيعي للمخيمات وهي مجاورة لها أو ملتصقة بها، ولا توجد بالقطاع أية مرتفعات أو هضاب أو جبال، وأرضه في عمومها أرض ساحلية سهلية منبسطة، عدا عن بعض المناطق والأماكن القليلة والمحدودة جداً المرتفعة بشكلٍ بسيط مقارنةً بباقي مساحة القطاع، وتعتبر جميع أراضي القطاع مكشوفة أمنيا وعسكرياً واستراتيجيا.
مع استِعار واشتداد اشتعال نيران العدوان الصهيوني الوحشي وحرب الإبادة والتطهير العرقي والتدمير الشامل ضد قطاع غزة، تستمر تفاعلات الصراع العربي ـــ الإسرائيلي بالتصاعد وتشهد تطورات دراماتيكية، وقد تسبب هذا العدوان الصهيوني الوحشي المتواصل بأضرار بالغة وجسيمة وفادحة على المدنيين الفلسطينيين الأبرياء العُزَّل المحاصرين، ويهدد الاستقرار في المنطقة والإقليم والشرق الأوسط بأسره، والعالم أجمع.
نجم عن «عملية طوفان الأقصى» فجر يوم السبت 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 التي نفذتها حركة “حماس” على المستوطنات الصهيونية المحيطة بقطاع غزة «مستوطنات غلاف قطاع غزة»، الذي تحاصره سلطات الاحتلال الصهيوني منذ أكثر من عشرين عاماً ــ مقتل 1،400 صهيوني وأسر أكثر من 250 رهينة، الأمر الذي أثار رداً انتقامياً غاضباً وقاسياً جداً من قبل حكومة وجيش العدو الصهيوني ومخابرات وأجهزة ومؤسسات الكيان الصهيوني ودعم غير محدود من الولايات المتحدة وأوروبا والغرب.
ــ انتقام ووحشية غير مسبوقين:
وأدى الرد الانتقامي الصهيوني الاجرامي الشديد العنيف والدموي والمتوحش إلى استشهاد واصابة واعتقال وفقدان عشرات الآلاف، وأسفر العدوان المتواصل عن استشهاد سبعين ألف شهيد %70 منهم من الأطفال والنساء، واصابة أكثر من مائة ألف جريح، من الفلسطينيين الأبرياء المدنيين العُزَّل من الأطفال والنساء والفتيات والشبان والشيوخ والعجائز والمرضي والمقعدين والعَجَزة، أكثر من نصفهم أصيبوا بجراحٍ خطرة، من بينهم أكثر من ثلاثين ألف جريح أصيبوا بإعاقات وعاهات دائمة، وفقد أكثر من 30ألف طفل فلسطيني أباءهم ومعيليهم وأصبحوا أيتام الأب، وهناك من الأطفال من فقد الأبوين أو جميع أفراد الأسرة والعائلة، ومسح الاحتلال المجرم أكثر من خمسة ألاف أسرة من السجل المدني بشكلٍ كامل، ودمرَّ البنية التحتية بشكلٍ كامل في قطاع غزة وحوالي 80% من المباني والمساكن والأحياء، وجميع الجامعات والمقار والمؤسسات والأجهزة الحكومية والبلدية، ومعظم المدارس والمساجد والكنائس والمؤسسات والجمعيات الخيرية والاجتماعية ، إضافة إلى المقابر ومقامات الأولياء والصالحين، وكذلك قصف وتدمير جميع الأماكن والمباني والمواقع الحضارية والأثرية والتاريخية، في مقدمتها المساجد الأكثر قِدَماً وعراقةً في فلسطين والعالم الإسلامي، وفي مقدمتها المسجد العمري الكبير في غزة، والذي تم بناءه في الأعوام الأولى للهجرة النبوية الشريفة، وهو أول مسجد بُني خارج الجزيرة العربية وفي فلسطين وبلاد الشام وعلى ساحل المتوسط، ومسجد السيد هاشم الذي شُيدَّ على أكناف مقام الجد الأكبر للرسول (صلى الله وبارك وسلم عليه واله)، وهو ثاني المساجد التي تم بناءها في فلسطين وبلاد الشام.
وسرق ونهب الجنود المجرمون البيوت وخاصة الأموال والمجوهرات وجميع المقتنيات الخاصة الثمينة والمؤسسات والبنوك والوثائق والمخطوطات التراثية والآثار وكل شيء له علاقة بالتاريخ والحضارة، ودمَّروا الأرشيف البلدي والوطني، وسرقوا شهادات وسجلات الملكية (شهادات الطابو) والأرشيف والسجلات القضائية، وسرقوا كل ما طالته أياديهم القذرة على امتداد قطاع غزة، وبلغت الإحصائية التقديرية الأولى لحجم مسروقاتهم من البيوت (فقط)، مالا يقل عن مليار دولار، بينما زادت قيمة مسروقاتهم من بنك فلسطين وبعض البنوك الأخرى من الأموال السائلة والودائع النقدية أكثر من نصف مليار دولار، بينما المقتنيات الثمينة والوثائق التاريخية والمخطوطات والكتب النادرة والنفائس التي سرقوها من المنازل والمساجد والمؤسسات، لا يمكن تقديرها بثمن.
ــ حرب أميركية استعمارية:
إنَّها حرب صهيونية أميركية غربية استعمارية مجرمة وقذرة وحقيرة ضد التراث والحضارة والتاريخ والجغرافيا والديموغرافيا في غزة وفلسطين المحتلة، وضد الإنسان الفلسطيني حياً وميتاً والشجر والحجر والشوارع والأزقة والميادين والأحياء القديمة والحديثة، ضد المخيمات الفلسطينية التي بقي العدو الصهيوني المجرم على ثأرٍٍ متواصل معها ومع ساكنيها من اللاجئين الفلسطينيين منذ النكبة الكبرى عام ١٩٤٨، هي حربٌ ضد الماضي والحاضر والمستقبل الفلسطيني والعربي والإسلامي، تستهدف بالدرجة الأولى محو وكي وعي وذاكرة الفلسطينيين والعرب والمسلمين، وإخراج غزة من الجغرافيا الفلسطينية؛ وإدخالها في التاريخ، مثلما فعل العدو تماماً مع حيفا ويافا وعكا والقدس والمجدل والنقب والجليل، فتصبح غزة ماضٍ فلسطيني نتغنى به كبقية المدن والبلدات والقرى والمعالم الفلسطينية التي احتلها أو دمرها العدو الصهيوني في النكبة الكبرى عام ١٩٤٨.
وهي أيضاً حرب ضد الديموغرافيا والهوية الفلسطينية، في محاولة لتغيير وخلط التركيبة الديمغرافية في قطاع غزة، وتدمير جميع المخيمات ومحوها بشكلٍ كلي من الوجود، في محاولة منه لطمس قضية اللاجئين والتخلص من أعبائها، ودفع الفلسطينيين للهجرة والنزوح القسري أو الطوعي من القطاع وفلسطين، كخطوة عملية لتصفية القضية الفلسطينية بالضربة القاضية.
وسيؤدي استمرار العدوان الصهيوني إلى استشهاد واصابة وفقدان واعتقال المزيد من المدنيين الأبرياء العُزَّل في قطاع غزة، خاصة مع استمرار العدو الصهيوني في سعيه لتحقيق هدفه المعلن المزعوم لــ: «تدمير قدرات “حماس” العسكرية».
ــ غزة جرح مفتوح:
لقد هُجِّر أكثر من مليوني فلسطيني، وكثيرون منهم لم يعودوا يمتلكون بيوتاً وأماكن يعودون إليها، بالنظر إلى أن قوات العدو الصهيوني سوِّت بالأرض أجزاءً كبيرةً من مدينة غزة وشمال ووسط وجنوب قطاع غزة، في حين أن العدوان الصهيوني الذي كان في أشد حالاته اجراماً وتوحشاً وعلوَّاً وافساداً وألحق دمارًا جسيمًا شاملاً كبيراً وواسعاً في شتى أنحاء القطاع، فإنَّ آثاره سيكون لها تداعيات في المنطقة والإقليم والعالم.
ونَكَأ العدوان الصهيوني المتواصل ضد قطاع غزة منذ يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر جرح غزة المفتوح، ومعها كافة الجراح الفلسطينية.
وعلى ضوء شراسة العدوان الصهيوني والهجمات الجوية والبرية والبحرية التي يواصل تنفيذها جيش العدو، وفداحة الخسائر البشرية في صفوف الفلسطينيين المدنيين الأبرياء العزَّل وكذلك الماديّة، فلقد رأينا نحن والعالم أسوأ الكوابيس تتحقّق أمام أعيننا وأعين الجميع، وطالت تبعات العدوان الصهيوني الاجرامي وانعكاساته وارتداداته مناطق العالم أجمع، وشهدت ومازالت تشهد العديد من العواصم والمدن العربية والغربية مسيرات ومظاهرات يومية وأسبوعية غير مسبوقة منذ سنوات تنديدًا بالحرب والعدوان الصهيوني الوحشي ضد المدنيين الفلسطينيين الأبرياء العُزَّل.
ــ حرب سرديات:
أدّت وحشية العدوان الصهيوني ضد قطاع غزة والفلسطينيين، وعودة القضية الفلسطينية وقضية الصراع العربي ــ الإسرائيلي إلى مركزيتها وموقعها المتقدم في اهتمامات المنطقة والإقليم والعالم، إلى نشوب «حرب سردياتٍ» في الغرب وشتى أنحاء العالم أجّجت التوتّر داخل الكثير من المجتمعات، ولا سيما في الغرب.
وكان الموقف الشعبي في الدول العربية الأخرى متباينا من “عملية طوفان الأقصى” التي نفذتها حركة “حماس” يوم السابع من أكتوبر/تشرين أول٢٠٢٣، ومن العدوان الصهيوني المتواصل ضد قطاع غزة، وفي حين سُمح بتنظيم احتجاجات شعبية تضامنا مع غزة في دول مثل مصر وقطر والعراق ولبنان والأردن واليمن وتونس والمغرب، فإن دولا عربية أخرى عديدة منعت كافة أشكال التعاطف والاحتجاجات والتظاهرات.
كما خرج الناس في بعض الدول العربية التي قامت بتطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني إلى الشوارع، مثل المغرب، والأردن، حيث يمكن لأي تحرك ضد العدوان الصهيوني أن يأخذ جوانب أكثر خطورة، نظرا لحساسية مكانة الأردن كدولة ومجتمع، مع كل السيناريوهات السياسية التي يمكن أن تتطور، وقد يتم ذلك من دون تحقيق المطالب الشعبية والنقابية والنخبوية بالقطع المنشود للعلاقات مع الكيان الصهيوني.
وشهدت الولايات المتحدة احتجاجات شعبية ضد حرب وعمليات الإبادة الجماعية التي يرتكبها العدو الصهيوني في قطاع غزة. وكما كان الحال خلال “حرب فيتنام”، يتم تنظيم هذه الاحتجاجات من قبل حركات اجتماعية فعالة، بقيادة طلاب الجامعات والطبقات المتوسطة الحضرية المتعلمة، بما فيهم الجاليات الفلسطينية والعربية والمسلمة.
وإلى جانب الدعم الجماهيري في العواصم والمدن الغربية، حيث تسمح حرية التعبير بتنظيم الاحتجاجات على الرغم من معارضة الحكومات الغربية التي تدعم العدو الصهيوني والشريكة والمتواطئة معه في العدوان وحرب الإبادة الجماعية التي يرتكبها بحق الشعب الفلسطيني، هناك الكثير من النشاط المؤيد والداعم لفلسطين في أميركا اللاتينية. ولا يُفسَّر ذلك فقط بوجود جاليات كبيرة من أصل عربي وفلسطيني، كما هو الحال في تشيلي والبرازيل، اللتان استدعيتا سفيريهما من الكيان الصهيوني، بل يُفسَّر أيضا بالمواقف التقدمية التقليدية للشعبين التشيلي والبرازيلي، القريبان سياسيا من قضايا وحركات التحرر الوطني حول العالم. وكذلك قطعت بوليفيا وكولومبيا علاقاتها مع الكيان الصهيوني.
وساهمت التطورات الدراماتيكية والأحداث المأساوية المتسارعة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني المظلوم وكذلك القضية الفلسطينية من بوابة العدوان الصهيوني الاجرامي المتواصل ضد قطاع غزة، في تعميق الهوة الكبيرة التي تفصل بين دول الشطرَين الجنوبي والشمالي من العالم، وزادت من حدّة الانقسامات الداخلية، وفضح ازدواجية المعايير الدولية، وفاقمت ظواهر عدّة، مثل صعود تيارات اليمين المتطرّف وتنامي المشاعر المعادية للمهاجرين.
وفي سياق تحليل هذه التأثيرات وغيرها، والإجابة عن بعض التساؤلات حول تأثير العدوان الصهيوني المتواصل ضد قطاع غزة، على دول المنطقة والإقليم والعالم، خلصنا إلى أن: «القضية الفلسطينية التي بدا في السابق، وكأنها دخلت في طيّ النسيان وتراجعت مكانتها، قد عادت مجدّدًا إلى واجهة المشهد والإعلام والاهتمام العربي والإسلامي والإقليمي والدولي وإلى صُلب النقاش السياسي على مستوى العالم، وأنها لا تزال قادرةً على التأثير في الرأي العام وحشد شعوب ومجتمعات حول العالم».
يُعزى ذلك إلى جملةٍ من الأسباب المعقّدة، أهمّها مشاعر الاستنكار إزاء عمليات الإعدام الميداني والقتل الجماعي المتعمد وحرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي يقوم بها العدو الصهيوني ضد الأطفال والنساء والمدنيين الأبرياء العُزَّل في غزة.
وفيما قوّضت «عملية طوفان الأقصى» التي نفذتها حركة “حماس” يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر، الشعور بالأمن لدى الكثير من الصهاينة، يرى مناصرو الشعب الفلسطيني أنَّ الصراع الراهن لا يمكن فصله عن سياقه العام، إذ يرزح الفلسطينيون منذ خمس وسبعون عاماً تحت وطأة الاحتلال الصهيوني والحرمان من كافة الحقوق، ويعيش سكان قطاع غزة منذ عقود تحت الحصار الصهيوني الظالم في أكبر سجن مفتوح في العالم، في ظلّ تفاوت شاسع وغير قابل للمقارنة في موازين القوى والقدرات العسكرية بين الجانبَين الإسرائيلي والفلسطيني، وغياب أي أُفق سياسي لحلّ الصراع.
ــ في خضمّ الخسائر المأساوية التي يتكبّدها سكان غزة، وارتفاع حصيلة الشهداء والجرحى والمفقودين والأسرى إلى عشرات الآلاف، معظمهم من الأطفال، سأل مذيعٌ لقناة فضائية عربية طفلًا فلسطينيًا: «ماذا يريد أن يكون عندما يكبر؟»، فأجابه الطفل قائلًا: «نحن أطفال غزة لا نكبر، لأنَّ الاحتلال يقتلنا، ونستشهد».
ــ يؤكد خط سير العدوان الصهيوني الوحشي المتواصل ضد قطاع غزة منذ، وكذلك سلوك العدو الصهيوني والدعم الأميركي والغربي الغير محدود والصمت العربي والإسلامي والإقليمي والدولي، أنَّ هناك أهداف غير معلنه للعدوان الصهيوني، تختلف كلياً عن الأهداف التي أعلنها نتانياهو عقب عملية طوفان الأقصى يوم 7 أكتوبر، وما يحدث فعلياً على الأرض في قطاع غزة، أكبر كثيراً من مخطط ومشروع القضاء على حركة “حماس” و مزاعم تحرير الأسرى الصهاينة، ومن الواضح أنَّ العدو الصهيوني يعمل على تنفيذ مخطط كبير وخطير من أجل تحقيق وإنجاز أهداف استراتيجية غير معلنة، وهذا ما يتوجب علينا معرفته والانتباه والتصدي له.
ــ حرب غزة الكاشفة:
ــ ومن المهم الإشارة إلى أنَّ أكثر التوصيفات والتسميات التي تم إطلاقها على العدوان الصهيوني الاجرامي الوحشي المتواصل ضد قطاع غزة، دقيقة ومناسبة ومعبرة عن وصف طبيعة ودلالات ومالات العدوان الوحشي الصهيوني وحرب الإبادة والتطهير العرقي الاجرامية العدوانية التي لم يسبق لها مثيل، هي تسمية «غزة: الحرب الكاشفة».
ــ وطرحت «حرب غزة الكاشفة» الغير مسبوقة في ضراوتها ووحشيتها وقسوتها ومستوى عنفها واجرامها وبشاعتها، الكثير من الأسئلة عن دورَي روسيا والصين وطموحات النظام العالمي الجديد الذي بات في طور التشكل بالتوازي مع العدوان المتواصل ضد غزة والشعب الفلسطيني، وكذلك التأثيرات المحتملة لــ «حرب غزة الكاشفة» على الصعيد الفلسطيني والإسرائيلي والعربي والإقليمي والدولي، حيث أظهرت الحرب الضارية كثيراً من مكامن الضعف لدى المنظمات والتجمعات الإقليمية، والتي فشلت في تبني أية مواقف أو سياسات يمكنها أن تؤثر أو تضغط لوقف العدوان الصهيوني الوحشي ضد قطاع غزة والفلسطينيين.
ــ من بين التساؤلات الكثيرة التي طرحتها التطورات المحيطة بغزة، التساؤل حول مواقف روسيا والصين، وهما البلدان اللذان أعلنا بشكل واضح ومباشر عن معارضة سياسة العقوبات الجماعية، وطالبتا بوقف الحرب، إلا أن هذه المواقف لم تترجم بتحركات سياسية نشطة تعكس ثقل وحجم تأثير البلدين العملاقين.
ــ ولذلك بات السؤال الأكثر تردداً عن: «سبب إخفاق البلدين اللذين طالما تحدثا عن دفع التحركات لترسيخ ملامح نظام عالمي جديد، وغدا هذا المسار جزءاً أساسياً من عقيدتيهما في السياسة الخارجية في السنوات الأخيرة».
ــ والسؤال الآخر الهام: «هل توجد ظروف دولية أفضل من هذه التي يشهدها العالم حالياً لتكريس فكرة الانتقال إلى نظام دولي جديد عبر تحركات جدية تضع بدائل للهيمنة على القرار الدولي من جانب الغرب»؟
ومن المتوقع أن: «يتضمن الوضع الإقليمي الذي أسست له “حرب غزة” من بين أمور عدة، عودة أنشط للولايات المتحدة إلى المنطقة، لا استمراراً لانحسار دور واشنطن وتأثيرها كما اعتقد البعض، من دون أن يعني ذلك، تقليص الحضور الروسي أو الصيني المتزايد أيضاً في المنطقة».
غزة إذًا جرحٌ نازف لن يندمل، وهو الشاهد الأكبر على مظلومية الشعب الفلسطيني وعدالة القضية الفلسطينية.
ــ قراءة في خطة نتنياهو: «اليوم التالي ما بعد “حماس”»
أعد رئيس حكومة الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو، بعد ضغوط شديدة من الإدارة الأميركية الحليفة والشريكة والصديقة، ومن قيادة الجيش والأجهزة الأمنية الصهيونية، وجهات عديدة دولية وإقليمية ومحلية، خطته لليوم التالي ما بعد العدوان على غزة. ويتضح منها أنها منسلخة تماماً عن الواقع، وتحاول فرض شروط على الفلسطينيين تنطوي على: «تخليد الاحتلال لأراضيهم والسيطرة على حياتهم، وإعادة تربيتهم وتثقيفهم حتى يغيروا موقفهم من “إسرائيل” ويقلبوا الكره إلى محبة».
تكشف صياغة نصوص الوثيقة القصيرة والمكونة من صفحة وربع الصفحة، أن نتنياهو “يتوهم” بمقدرته على الجلوس في مكتبه في تل أبيب، ورسم خريطة قواعد حياة الفلسطينيين، وتخطيطه أدواراً للولايات المتحدة وللدول العربية أيضاً.
عنوان الوثيقة، هو: «اليوم التالي ما بعد حماس – مبادئ»، وهي مقسمة إلى أربع فقرات.
ــ الفقرة الأولى: «الشروط اللازمة للوصول إلى (اليوم التالي)».
وفيها يؤكد نتنياهو استمرار الحرب حتى تحقيق أهدافها: إبادة القدرات العسكرية والبنية التحتية لسلطة «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، وإعادة “المخطوفين”، ومنع إمكانية أن يكون قطاع غزة تهديداً أمنياً.
هنا يتضح أن نتنياهو تعلم الدرس، ولذلك لم يعد يتحدث عن إبادة «حماس». فقد شرحوا له أن «”حماس” تنظيم فكري، وليس فقط تنظيماً مسلحاً»، لكنه رغم ذلك مصر على الاستمرار في الحرب.
ـــ الفقرة الثانية: وُضعت تحت عنوان «المجال الأمني».
تشمل هذه الفقرة خمسة بنود توضح نيات نتنياهو الجادة في اعتماد استمرار الحرب والعدوان، حيث يقول إن: «”إسرائيل” ستحتفظ بحرية عملياتها الحربية في جميع أنحاء قطاع غزة، من دون تحديد مدة»، وذلك لغرض «منع تجدد “الإرهاب” وتصفية التهديدات من غزة»، ثم يؤكد إصراره على: «إقامة “حزام أمني” داخل تخوم قطاع غزة على طول الحدود مع “إسرائيل” ما دامت توجد هناك ضرورة أمنية».
ونتنياهو، الذي يستطيع إقامة مثل هذا “الحزام الأمني” داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، وقرب الحدود الشرقية والشمالية لقطاع غزة، في داخل منطقة مستوطنات غلاف غزة، لكنه شدد على أنه يريده حزاماً مقتطعاً من أراضي قطاع غزة لصالح الكيان الصهيوني. وبذلك يثبت النظرية التي وضعها عضو ائتلافه الحكومي الإرهابي اليميني المتطرف بتسلئيل سموتريتش بــ: «معاقبة الفلسطينيين على هجوم “حماس” بأن يخسروا قطعة من أراضيهم».
ــ حول البند المتعلق بالحدود بين مصر وقطاع غزة: قال نتنياهو إنه سيقيم «مانعاً جنوبياً، بالشراكة مع مصر بقدر الأمان، وبمساعدة الولايات المتحدة»، وحدد هدفاً لذلك هو: «منع التهريب من مصر إلى غزة، ويشمل معبر رفح ضمن الشراكة الإسرائيلية ــ المصرية». وهنا وضع نتنياهو بنداً يؤكد فيه على: «فرض سيطرة “إسرائيلية” أمنية على كل المنطقة الممتدة من البحر (المتوسط) إلى النهر (الأردن)، بما في ذلك غلاف غزة، برياً وبحرياً وجوياً»، وقال إن: «الهدف هنا هو منع تعاظم قوة الإرهاب وتصفية التهديدات لإسرائيل، وجعل قطاع غزة منطقة منزوعة من السلاح ما عدا الحاجة إلى ضبط النظام الجماهيري». مؤكداً أن: «”إسرائيل” هي التي ستكون مسؤولة عن تطبيق هذا البند ومراقبة ذلك في المستقبل المنظور».
ــ الفقرة الثالثة، بعنوان «المجال المدني»:
ــ البند الأول: تحدث نتنياهو عن «إدارة ومسؤولية النظام الجماهيري بالاعتماد قدر الإمكان على عناصر محلية ذات تجربة إدارية، بحيث لا تكون هذه العناصر منتمية إلى دول أو تنظيمات مساندة للإرهاب ولا يقبضون رواتب منها».
وهو هنا يريد نظاماً مختلفاً عن الضفة الغربية التي تتولى شؤونها المدنية السلطة الوطنية الفلسطينية، وهذا الذي جعل الخبير الاستراتيجي الصهيوني، رون بن يشاي، يستنتج أن: «نتنياهو يريد حلاً مبنياً على “ثلاث كيانات لشعبين”، لكي يستبعد حل الدولتين».
ــ البند الثاني: خطة تربية وتثقيف للفلسطينيين: قال نتنياهو: «يتم الدفع بخطة لمنع التطرف في جميع المؤسسات الدينية والتربوية والاجتماعية في قطاع غزة، وذلك يكون بمساعدة قدر الإمكان تقدمها دول عربية ذات تجربة في دفع خطط كهذه في بلادها».
ــ البند الثالث: تصفية قضية اللاجئين: وضع نتنياهو بنداً خاصاً من أجل تصفية قضية اللاجئين من دون حل لها، مؤكداً أن: «”إسرائيل” ستعمل على حل وكالة غوث اللاجئين (الأونروا) في قطاع غزة واستبدال بها وكالات إغاثة دولية أخرى».
ــ البند الرابع: إعادة إعمار غزة: أكد نتنياهو أن: «إعادة إعمار قطاع غزة يتم فقط بمشاركة دول تقبل بها “إسرائيل”، وفقط بعد استكمال نزع السلاح وتنفيذ خطة التربية ضد التطرف».
ويطرح هذا الأمر تساؤلاً ساخراً إن: كان نتنياهو ينوي اجراء امتحاناً للشعب الفلسطيني في قطاع غزة ليعرف مدى التغير في ثقافة الكراهية لإسرائيل؟
ــ الفقرة الأخيرة في خطة نتنياهو: وُضعت تحت عنوان «المدى البعيد».
وهي مؤلفة من خمسة أسطر قال فيها ما لا يريد، ولم يطرح فيها أي فكرة إيجابية عن السلام ووضع حد للعداء، وأعاد فيها تكرار موقفه «رفض الإملاءات الدولية في قضية التسوية النهائية مع الفلسطينيين، والتأكيد أن مثل هذا الأمر يحدد فقط في المفاوضات المباشرة وبلا شروط مسبقة»، وأكد أيضاً أن: «”إسرائيل” ستواصل رفضها الاعتراف أحادي الجانب بدولة فلسطينية».، زاعماً إن مثل: «هذا الاعتراف بُعيد مذبحة 7 أكتوبر (تشرين الأول) سيكون بمثابة منح جائزة جبارة للإرهاب لم يسبق لها مثيل، وسيؤدي إلى منع أي تسوية سلمية قادمة».
من الواضح للعيان إن «خطة نتنياهو» هذه تبدو أساساً لمفاوضات مع حلفائه في اليمين الإرهابي الصهيوني، وليست للمفاوضات مع الفلسطينيين، لأنَه السلام مع حلفائه في الائتلاف الحكومي اليميني الإرهابي المتطرف، هو ما يسعى إليه، لأنهم عماده الوحيد المضمون للبقاء في الحكم، وعدم الذهاب إلى المحاكمة والسجن.
وأما الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي طالب نتنياهو بشكل حثيث ومتكرر بأن: «يفصح عن خطة حكومة “إسرائيل” لـ “اليوم التالي”»، فقد أخذ منه نتنياهو ما يريد.
ومن ناحيتها سارعت السلطة الوطنية الفلسطينية إلى رفض هذه الخطة، وقال الناطق باسم الرئاسة الفلسطينية، نبيل أبو ردينة: «ما يطرحه نتنياهو من خطط الهدف منه هو استمرار احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية ومنع إقامة دولة فلسطينية، وغزة لن تكون إلا جزءاً من الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، وأي مخططات غير ذلك مصيرها الفشل، ولن تنجح “إسرائيل” في محاولاتها تغيير الواقع الجغرافي والديموغرافي في قطاع غزة».
ــ بالتزامن مع نشر الورقة التي وضعها رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو، أعادت سلطات الاحتلال الصهيوني “وسم” الضفة الغربية (הגדה המערבית) على شحنات البضائع المستوردة بدل السلطة الفلسطينية، على أوراقها الرسمية للبضائع التي يستوردها التجار الفلسطينيين للأراضي الفلسطينية، بدلاً من اسم «أراضي السلطة الفلسطينية» في الاسابيع الاخيرة. وقال عدد من التجار الذين يستوردون بضائعهم من مختلف دول العالم، انهم تفاجئوا من اعادة كتابة كلمة الضفة الغربية، بدلا عن كلمة السلطة الفلسطينية (הרשות הפלסטינית) لوجهة البضائع المستوردة. واضاف التجار ان كلمة (الضفة الغربية) كانت تستخدم من قبل “الجمارك الإسرائيلية” قبل توقيع “اتفاق أوسلو” وخضوع مناطق ومدن الضفة الغربية للسلطة الفلسطينية، حيث اعتمدت الجمارك وضع اسم مناطق السلطة الفلسطينية على خانة وجهة البضائع التي يستوردها التجار والمستوردين الفلسطينيين من الأراضي الفلسطيني المحتلة عام 1948، وأوضح التجار أن: «هذا التغيير قد يكون بداية لإجراءات وتغييرات “إسرائيلية” في المجال التجاري والاقتصادي لإضعاف السلطة الفلسطينية بناء على سياسة الحكومة “الإسرائيلية” اليمينية التي تنتهج خطوات لإنهاء السلطة واي وجود سياسي واقتصادي لها».
وفي ذات السياق تواصلت كافة جهود ومساعي المجرم نتنياهو وحكومته اليمينية الصهيونية المتطرفة المجرمة، ليتمكن من إطالة أمد العدوان الاجرامي الوحشي المتواصل ضد قطاع غزة واستكمال عمليات الإبادة والتطهير العرقي والطرد والتهجير القسري ضد الفلسطينيين في قطاع غزة والقدس والضفة الغربية، وتدمير قطاع غزة بشكل كامل وهدم جميع معالمه التاريخية والحضارية وجامعاته ومدارسه ومستشفياته ومساجده ومؤسساته ومبانيه وبنيته التحتية، بل القضاء على كافة معالم ومقومات وأسس الحياة ومحاولة محو وطمس كل شيء في قطاع غزة عن الوجود، وجعله بقعة جغرافية غير صالحة للحياة لسنواتٍ طويلة وعديدة قادمة، ومكاناً طارداً للحياة، وتحويله من «أكبر سجن مفتوح في العالم والتاريخ»، إلى «أكبر مقبرة جماعية في العالم والتاريخ»، لكي يواصل هروبه مع مجموعة الإرهابين المتطرفين من أركان حكومته المجرمة من المحاكمة لدى محاكم الكيان الصهيوني بتهم الفساد التي تلاحقه وكذلك بتهم الفشل الذريع في يوم السابع من أكتوبر/ تشرين أول ٢٠٢٣
ختاماً:
شهادةً للتاريخ وقفت مصر ورئيسها عبد الفتاح السيسي وقيادتها وحكومتها وجيشها وكافة أجهرتها السيادية، بمنتهى الصلابة والعناد والبسالة والشجاعة والقوة بالتعاون مع القيادتين الفلسطينية والأردنية في مواجهة العدوان الصهيوني الوحشي ضد قطاع غزة والشعب الفلسطيني وضد كافة المخططات والمؤامرات الصهيونية وفي مقدمتها مخطط تهجير وطرد الفلسطينيين من قطاع غزة نحو مصر ومن الضفة الغربية والقدس المحتلة نحو الأردن، وهو ما أربك حسابات قادة العدو وأميركيا والغرب، وأفشل جميع مخططاتهم ومؤامراتهم التي كانت تعتمد على استمرار العدوان وطرد الفلسطينيين من القدس وغزة والضفة الغربية لتصفية القضية الفلسطينية بالضربة القاضية وبشكل نهائي.
ولقد كشف العدوان الصهيوني المتواصل ضد شعبنا وأهلنا وأرضنا في القدس المحتلة والضفة وقطاع غزة، حجم نازية ووحشية وافساد وعُلُّو واجرام وعنصرية وفاشية العدو والمشروع الصهيوني، ونتيجة للجرائم الوحشية التي ارتكبها ومازال يرتكبها العدو الصهيوني ضد شعبنا الفلسطيني المظلوم، تنامت على مستوى العالم مشاعر الكراهية والغضب لدى جميع الفلسطينيين والعرب والمسلمين وكل من يحمل بداخله ضمير إنساني حي، وأيقظت الضمائر الإنسانية الحية على مستوى العالم، وأحدثت انقلاباً في الرأي العام الغربي والدولي بعد أن شاهد العالم أجمع المجازر البشعة وحرب الإبادة وعمليات التطهير العرقي والإعدام الميداني التي ارتكبها جيش العدو الصهيوني ضد أطفال وفتيات ونساء وشيوخ والأمهات الحوامل والأجنة وكافة شرائح المجتمع وآلاف العائلات في غزة المظلومة المحاصرة، وكذلك ساهمت في تنامي مشاعر الكراهية الفلسطينية والعربية والإسلامية والإنسانية للكيان والمشروع والعدو الصهيوني وللولايات المتحدة وجميع الدول الغربية الداعمة للكيان والمشروع الصهيوني وللعدوان البربري الوحشي ضد شعبنا الفلسطيني عموما وضد قطاع غزة خصوصاً، وطالما استمر الظلم والعدوان الصهيوني والغربي ضد حقوق الشعب الفلسطيني، فلن يكون هناك أي نوع من الاستقرار في العالم، فالعدالة والإنصاف للفلسطينيين والحل العادل وفق قرارات الأمم المتحدة والشرعية الدولية مع رد كافة الحقوق التاريخية المسلوبة والمشروعة للشعب الفلسطيني هما مفتاح الاستقرار والسلام في المنطقة والإقليم والعالم، وفي مقدمتها إعلان حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على كافة الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ١٩٦٧ وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين والمهجرين والمبعدين واطلاق سراح جميع الأسرى والمخطوفين من سجون العدو، وكشف مصير المفقودين، وإعادة جميع جثامين الشهداء اتي سرقها وما يزال الاحتلال يحتجزها لديه.

بقلم: اللواء د. محمد أبوسمره
قيادي ومفكر فلسطيني ورئيس تيار الاستقلال الفلسطيني

مواضيع ذات صلة: