لم يعد الكلام للقانون، إذ ثَبُتَ فشله في المحافظة على الانتظام العالمي وحماية المدنيين. وليس عبثاً أن تتزامن محاولة منقوصة تجري في لبنان لمحاكمة الحاكم السابق لمصرف لبنان المركزي رياض سلامة (مع ما يشمله هذا الاسم من رمزية لنظام متكامل متداخل) عن مجزرة اقتصادية اجتماعية أرتكبت بحق المواطنين اللبنانيين، مع محاولات عرجاء تجري في المحاكم الدولية لضبط التوحش الإسرائيلي، والإنحراف المُستجد نحو استخدام تقنيات جديدة في المجازر المرتبطة بالحروب. لطالما قلنا بضرورة شمول الجرائم الاقتصادية ضمن نصوص الجرائم ضد الإنسانية، أما الآن فنحن أمام تحدي العالم الرقمي كأحد أهم الوسائل التي تشكل خطراً على المدنيين.
تيمناً بالشاعر أحمد شوقي وقياساً على الأمم والقوانين، نقول: إن ذهبت الأخلاق ذهبت القوانين. فالقانون عامَّة – في إدارة النزاعات على المصالح/الصراعات/الخلافات/الحروب – ارتبطت قيمته بنوايا الأطراف بالخضوع للقوانين، ورغبتهم بالانضواء تحت مضمونها. أما وأن إسرائيل والدول الغربية الداعمة لها لم تنضوِ تحت القانون، فهو قرينة على عدم جدوى هذه القواعد، علماً أن الدول الغربية نفسها هي صاحبة “الباع” التاريخي بوضع القواعد التي عُرفت لاحقاً بـ”القانون الدولي”، سواء أكان قانوناً دولياً عاماً أم قانوناً إنسانياً. وما الكلام عن الأخلاقيات والقيم الإنسانية إلا اعترافاً ضمنياً بعدم كفاية القوانين في تأمين أهدافها، نظراً لعدم حصرية الأطراف المعنية بمضمونها – تقليدياً كانت الدول – أو لعدم فاعلية هذه القواعد على هذه الأطراف.
المشهد القانوني العام لعل البحث عن إثبات نوايا الدول الغربية بعدم الخضوع للقانون سيكون عملية معقدة وخاضعة لنقاش يدخل فيه السياسي بالحضاري بالعقائدي بالمصلحي بالنفسي. لكن الواقع الموضوعي الثابت يضعنا أمام عناصر جديدة لم تكن موجودة عند اعتماد القواعد القانونية الدولية، ولم تستطع الأدوات التقليدية المؤسساتية المعنية بتفسيرها وتطويرها من مواكبة التحولات، سواء عن قصد أو عن غير قصد. فمنذ أن وُضعت القوانين الدولية كانت الدولة؛ (بمفهوم “الدولة الحديثة” ولا نقصد حُكماً المفهوم الحديث للدولة)؛ هي المعنية بالخضوع للقواعد الدولية. ومنذ ذلك الحين ظهرت أدوار جديدة فاعلة، في حياة المدنيين بالإجمال وفي الحروب بشكل أكثر تحديداً، وهي عناصر معنوية متحولة ومتحورة الأشكال والأنماط، وأصبحت أقوى من الدول ومتقاطعة المصالح مع دول أو مع أفراد فاعلين ضمن هذه الدول نفسها. من ناحية أخرى، فإن اسرائيل، كيان ولد من رحم النظام الدولي الذي نشأ إثر الحرب العالمية الثانية، واعترفت به الأمم المتحدة “دولة”. أي تكرّست القواعد الناظمة لهذا المجتمع الدولي في الوقت نفسه الذي ولدت وشُرٍّعت فيه تلك الدولة، والتي لم تلتزم يوماً بقواعده، فكانت أول إسفين في هذا النظام.
منذ ذلك الحين أيضاً بدأ العالم يشهد على انفجار اقتصادي مع حاجة أوروبا للشركات الأميركية من أجل إعادة إعمار البلدان الأوروبية. وبدأت الشركات المتعددة الجنسيات بالظهور ولعب دور فاعل في تحديد المصالح وإدارتها وفرض أنظمة قانونية اقتصادية جديدة على مستوى العالم. وكذلك، أعطيت المنظمات الاقتصادية غير الحكومية مجالاً لتبرز كمؤسسات فاعلة في القرار الدولي/العالمي وذات تأثير على الاقتصادات الرسمية. كما أعطيت المنظمات الإنسانية والتنموية غير الحكومية أدواراً فاعلة في المجتمعات المحلية.
ضمن سياق متزامن، تكرّست القوانين المحلية الناظمة لعمل شركات الأموال كشكل أساسي للأشخاص المعنويين ذوي الدور في الاقتصادات المحلية، واعتبارها كياناً مسؤولاً منفصلاً عن الأشخاص المؤسسين أو الشركاء أو المدراء المقررين فيها. وما أزمة المصارف اللبنانية إلا شكل من الأزمات التي تنتج عن عمل هذه الكيانات، دون مواجهة قانونية فاعلة للتحديات والمخاطر المرتبطة بعملها. في مرحلة لاحقة، انتقل العالم في ظل العولمة إلى حقبة جديدة أحادية القطبية، مع ما واكبها من عولمة المصالح الاقتصادية. تميزت هذه الحقبة أيضاً بظهور دور أساسي للعالم الرقمي بشركاته وأدواته وارتباطاته بالمجتمع، حيث نقل العلاقات الاقتصادية والاجتماعية إلى نمط جديد. وهكذا انطلق البحث عن قواعد قانونية يمكن من خلالها ضبط المخاطر الناتجة عن هذه التطورات التقنية، دون أن تفلح في إيجاد صيغة حمائية للمواطنين، وذلك لأسباب موضوعية وواقعية. بل على العكس أصبحت الدول بمكوناتها رهينة هذه الشركات. هذا قبل انبثاق الذكاء الاصطناعي ومحاولة تكييفه القانوني والتوجه نحو الإعتراف بشخصيته المعنوية المستقلة عن شخصية مُصدِره أو مُنشئه أو مستخدمه أو المستفيد منه.
واقع الشعوب والحق بالمقاومة
أما على مستوى الشعوب، فقد أقر القانون الدولي بحق الشعوب بمقاومة الإحتلال. إلا أنه في إطار موازٍ لهذه التغيرات، أصبح مفهوم الاحتلال نفسه محل نقاش مرتبط بالصراعات السياسية، ما أدَّى إلى التضارب في مفهوم أبعاد المقاومة، وما واكبها من ارتباطات سياسية إلى جانب دورها كحركات تحرر وطني. فأصبح ما كان مكرساً حقاً للشعوب محل تصارع لدى الشعوب نفسها صاحبة هذا الحق. وكل ذلك كان يُقاس وفق المعايير التي ثبتت وتم تعميمها في القراءات الغربية للقوانين. هذا الواقع ميّز الدول التي تعيش صراعات سياسية والتي خرجت من استعمار رسم مقاساتها القانونية الداخلية والخارجية. يُواجِه هذ الواقع ظاهرة عسكرية جديدة في السنوات الأخيرة تتشابه مع مرتزقة القرون الماضية، وهي التكتلات العسكرية الفاعلة غير الرسمية التي تلعب دوراً أساسياً في صراعات متعددة – كما يحدث في أوكرانيا أو السودان على سبيل المثال. كثرت التقارير حول ارتباط هذه المكونات العسكرية مالياً بجهات حكومية – ومصالحها المالية – وهي ذاتها شريكة بالقرار السياسي في المنظمات الدولية أو الإقليمية، ولاعبة أساسية في اقتصادات وسياسات الدول المتحارب على أرضها. فأصبحت المعايير القانونية بين شرعية المجموعات ومشروعية تكوينها عرضة للمخاطر على مستوى التكييف القانوني الدولي.
اذا كان الموقف من الدول الغربية أنها دول حضارة يُقتدى بها، أو دول استعمارية يُفترض مواجهتها، فإن الواقع القانوني يتجسد بأن هذه الدول منذ بداية القرن الماضي أسست التنظيم القانوني ووضعت أدواته وكذلك عناصر خرقه. وهي أول من قام بممارسات تشي بغياب الرغبة بالإنضواء تحته. وأعادت حرب غزَّة النقاش على مستوى العالم عن دور حركات التحرر الوطني في محاربة الاستعمار وليس فقط الاحتلال.
اذا كان الموقف من الدول الغربية أنها دول حضارة يُقتدى بها، أو دول استعمارية يُفترض مواجهتها، فإن الواقع القانوني يتجسد بأن هذه الدول منذ بداية القرن الماضي أسست التنظيم القانوني ووضعت أدواته وكذلك عناصر خرقه. وهي أول من قام بممارسات تشي بغياب الرغبة بالإنضواء تحته. وأعادت حرب غزَّة النقاش على مستوى العالم عن دور حركات التحرر الوطني في محاربة الاستعمار وليس فقط الاحتلال.
قوانين الحرب وأخلاقياتها المفارقة في المواجهة الحالية بين إسرائيل وحركات المقاومة في المنطقة، وفي الحرب الدائرة منذ عام على غزة ولبنان، تكمن في أن الدول لا تنتظم ضمن المعايير القانونية، في وقت ما زالت قوى المقاومة تعتمد معاييرها في احترام قواعد الحرب، من عدم استهداف مدنيين وحصر المعركة بالساحة العسكرية، بخلاف ممارسات إسرائيل التي تدافع عنها الدول الغربية – مهندسة المنظومة الدولية – متلطية خلف معيار المشروعية لهذه الممارسات. مع العلم أن القواعد الضمنية الراعية لبيئة هذه المجموعات المقاومة، وهي القواعد البديلة عن القوانين الوضعية ضمن هذه البيئات، هي قواعد دينية، تشكل أحد مصادر القواعد الأخلاقية المطروحة في الخطاب العام (صوابية هذا الخيار وبدائلها الممكنة مطروحة للنقاش في المجتمعات المتعددة وفي ظل العولمة). هذه القواعد الأخلاقية تتطابق مع ما يُعرف بأخلاقيات الحرب التي تتداولها ترويجاً تلك الدول الغربية ولا تشكل رادعاً قانونياً بغياب ربطها مع القوانين الدولية. إن السؤال المنطقي الذي يطرح نفسه يرتبط بأصل العلاقة بين القانون والأخلاق. إذ مع دخول أدوار وفاعلين جُدد، بدأنا الحديث عن القواعد الأخلاقية، متيقنين بأن القوانين والأخلاق مفهومان متلازمان وغير متطابقين. هو بالفعل كذلك، على اعتبار أن القانون الوضعي يجسد ما تم التوافق عليه سياسياً من خلال المصادر التقليدية للنصوص القانونية، وهي الدول ضمن مؤسساتها الدستورية. فأصبحت هذه النصوص سجناً للقانونيين وعلى حساب أصحاب الحقوق، وأصبح استخدام الأخلاقيات عنصر مناورة عند من يمتلك القوة، وأصبح التحدي الحالي يكمن في تكريس مضمون جديد للقوانين سواء بالقرار المؤسساتي الدولي الرسمي، أو الاجتهادي القضائي. وهذا ما يفسر النقاش الضائع لدى القانونيين للإجابة عن التساؤل حول جدوى القانون أمام هول المرحلة.
في الجرائم الدولية
ليست الجريمة الدولية مفهوماً جديداً في المعنى القانوني. فجرائم الحرب انبثقت عن نزاعات دولية. وكانت الأعراف الدولية أحد أهم مصادر القانون الدولي، بخلاف المرحلة الحالية حيث لا يمكننا الركون إلى العُرف بمعناه القانوني. كما أن الجرائم الاقتصادية بذاتها انطلقت من الجرائم المالية المنظمة عبر الدول. إلا أن تشظي تكتلات الشركات المتعددة الجنسيات – ضمن أشكال سلاسل التوريد أو أمام وكالات استثمار العلامات التجارية، أو أشكال التعاون بين الكيانات المعنوية-، جعل من العلاقات بين هذه الكيانات لا تشكل بالضرورة جرائم برغم الأضرار الجمة التي يمكن أن تنتج عنها. وفي حال تكون الجرائم نواجه مخاطر فقدان تتبع الآثار مع سهولة تكوين وإنهاء هذه الكيانات المعنوية.. وقد طرحت قضية نيترات الأمونيوم في مرفأ بيروت هذا الخرق لأمن المواطنين، وتكرَّرت مع تفجير أجهزة “البيجر” و”التوكي وكي” ومصادرها وسلسلة استيرادها. يتقاطع هذا التحدي مع معايير الفساد وترابط المصالح المالية بين أفراد من المستفيدين من الأنظمة المحلية ومصالح اقتصادية خارجية أخرى، والحماية القانونية لهذه المصالح المرتكزة على مبادئ الحريات الاقتصادية، أمام تلكؤ القضاء المحلي في ضبط حدود المصالح وتوازنها. ولا نعني بالضرورة في ذلك سوء نية هؤلاء المستفيدين ومعرفتهم المسبقة بكم المخاطر. وفي ذلك نقاش آخر.
هواجس واقعية
وبغض النظر عن المجازر التي حصلت يومي 17 و18 أيلول/سبتمبر 2024، وتوجه التحقيق لتبني التفخيخ المادي لأجهزة “البيجر” والأجهزة اللاسلكية واستخدام التقنيات في تفجيرها، وأمام فرضية فيروسات رقمية تؤدي إلى تفجير أجهزة متصلة بالشبكة، نكون أمام التساؤل المتعق بإمكانية استخدام العالم الرقمي لناحية تحديد فئة معينة من البشر بمواصفاتها الفكرية او العرقية او الجنسية أو أو… وهو أمر سهل في عصر الذكاء الاصطناعي وكم المعلومات الشخصية المتاحة عبر الشبكة. أما بشأن امكانية برمجة الشبكة بشكل مقصود من خلال مستخدميها، لاختيار هذه الفئة لنفي وجودها عن البسيطة، فهل يمكننا اعتبار أن جريمة الإبادة يُمكن أن تأخذ بعداً جديداً؟ وهل ما يزال جرم الابادة مقتصراً على العرق البشري في أبعاده المحددة بقواعد جنيف وروما التي تنفي تبني جريمة الإبادة على أساس المعتقد الفكري؟ وانطلاقاً من التوجه القانوني نحو إمكانية الاعتراف بشخصية معنوية مستقلة للذكاء الاصطناعي، لا بد من أن نتساءل عن مخاطر المرحلة المقبلة، ومعقوليتها، وماذا نفعل للاحتياط من بلوغها. هل فكرنا في امكانية الذكاء الاصطناعي في إطلاق شرارة قتل من خلال استخدام التقنيات أو البرمجيات؟ هل يمكن الادعاء بوجود خلل تقني لم يعد الانسان قادراً على ضبطه، فلا يمكن ملاحقة أطراف محددة انطلاقا من الكيان القانوني الخاص بالذكاء الإصطناعي؟ أمام هذا الواقع، وأمام تغيير أنماط التشكلات المجتمعية أو إمكانية تصنيفها وتحديدها، هل ما زال الركون للقوانين الراعية حامياً للمدنيين؟ إذا نظرنا إلى التوجه العالمي ومخاطره يمكننا تخيل مدى الخطورة المتوقعة مع التطورات الاقتصادية السياسية الأمنية الإنسانية. هذا وما زال القانونيون في مرحلة التنازع بين ليبرالي واشتراكي وتبني توجهات قانونية أصبحت في غياهب الماضي، أمام تحديات ما بعد الحداثة.