قوات النخبة الإسرائيلية والجاهزية القتالية المتداعية

لا يختلف عاقلان على أن الحرب تضغط بتداعياتها على جميع الأطراف المشتركة فيها بنسب مختلفة، وهذا يجعل الجميع ملزماً بضبط الخطاب الإعلامي بما ينسجم والأهداف المعلنة للحرب من كل طرف، أي أن كل ما يتعلق بالحرب وتداعياتها يكتسي طابعاً خاصاً يأخذ بالحسبان طريقة تعاطي العدو مع الخبر الذي يتم تداوله ضمن وسائل الإعلام الرسمية لهذا الطرف أو ذاك، ويدرك المهتمون بالشأن الإعلامي لدو العدو الإسرائيلي أنه يولي الإعلام العسكري اهتماماً كبيراً، و لا يمكن التقليل من شأن التجربة الإسرائيلية الخاصة بضبط مفردات الخطاب الإعلامي، حيث يبقى كل ما يتم نشره في الإعلام الإسرائيلي خاضعاً لمقص الرقيب العسكري، وبالتالي من السذاجة بمكان التعامل مع ما يتم نشره على أنه تسريبات من دون علم الجهة الوصائية التي لا يمكن لأية وسيلة إعلام إسرائيلية أن تقامر بخرق التعليمات، وبخاصة ما يتعلق منها بالجيش ولاسيما في زمن الحرب، أي أن ما يتم تسويقه على أنه شكل من أشكال حرية الصحافة ليس أكثر من رماد يتم ذره في العيون لتهيئة الرأي العام لتقبل حقيقة مخفية قد يترك الإفصاح عنها ارتجاجاً يؤثر على أداء بقية المؤسسات، ولذا يتم العمل الممنهج والمدروس لتمرير هذه الرسالة أو تلك عبر هذه الوسيلة الإعلامية أو غيرها تحت عنوان التسريبات، وهي مهمة منفذة بحرفية عالية ضمن سياق تهيئة المناخ الممكن لتوجيه الرأي العام وفق بوصلة محددة ومحسوبة المسار بشكل مسبق، وبشكل تدريجي يتم الانتقال من خطوة إلى أخرى وفق برنامج زمني يبيح للمسؤولين عن الرأي العام دراسة رصد التداعيات والتعامل المسؤول معها، وليس بشكل عشوائي أو اعتباطي، أو وضمن ما يتم الحديث عنه من حرية الصحافة وواجب الإعلام نقل الحقيقة التي هي من حق الجمهور، فمثل هذا الكلام جزء من أدوات العمل المعتمدة واللازمة لتنفيذ المهمة المطلوبة، ولا أكثر من ذلك.

استناداً لما سبق يمكن القول: إنه لم يكن جزافاً ولا تنفيساً عن احتقان ذاتي داخلي أن تنشر صحيفة هآرتس الإسرائيلية بتاريخ 21/12/2023م. مقالاً مطولاً بعنوان: “(الإسرائيليون يحتاجون إلى أكاذيب المتحدث باسم “الجيش” ليعتقدوا أنّهم ينتصرون)، وقد تضمن المقال هجوماً لاذعاً على المؤسستين السياسية والعسكرية بآن معاً بهدف إيهام المستوطنين بقدرة “الجيش” الإسرائيلي على تحقيق الانتصارات، في حين أنّ “إسرائيل” عالقة وتتعثّر، وأضاف المقال: إنه ومنذ عملية حارس الأسوار عام 2021م. والإسرائيليون محكومون بعملية دعاية سياسية موجهة تهدف إلى إقناعهم بأنّ “الجيش” عظيم، ولا مثيل لسلاح الجو الإسرائيلي في العالم بأسره، وأنّ حماس تلقّت ضربةً خطرةً، ضربةً مميتة… وصولاً إلى جملة يحب سماعها الإسرائيليون وهي: “لقد استعدنا قدرتنا على الردع”، ويضيف المقال: (إن خلاصة عمل الناطق بلسان “الجيش” الإسرائيلي تتمثّل في التقاط كمية مناسبة من القذارة ثم تغليفها ورشّها بالعطور، وبيعها لنا كما لو كانت طعاماً شهياً) فلا أحد من الإسرائيليين يريد أن يسمع أنّ لديهم “جيشاً” متواضعاً، وأن معلوماته الاستخباراتية فاشلة، وأنّ جماعةً (حماس) قادرة على تركيعه على ركبتيه، وفي اليوم التالي لنشر المقال كان الحديث عن سحب لواء غولاني ولواء المظليين من ساحة المعركة، وهنا يمكن التوقف عند مجموعة من النقاط التي قد توضح الصورة بشكل أفضل ومنها:

لواء غولاني ولواء المظليين يمثلان صفوة قوات النخبة في جيش الاحتلال الإسرائيلي، وكلاهما تم الزج به منذ بدء الاجتياح البري، وطالما أن الحرب مستمرة منذ أكثر من 90 يوماً ـــ حتى موعد سحبهما من الجبهة ـــ ولم تحقق أياً من الأهداف الاستراتيجية التي تم الإعلان عنها، فهذا يعني إخفاق اللواءين في تنفيذ المهمة المباشرة المسندة لكل منهما.

• من المتعارف عليه في العلم العسكري نظرياً أن التشكيل العسكري الذي يخسر من 20 إلى 25% من قوته النارية والبشرية يدخل ما يسمى مرحلة “الإعطاب”، وعندما ترتفع تلك النسبة وتصل حتى 50% فهذا يعني دخوله مرحلة اللا جاهزية، أي فقدان الجاهزية القتالية التي تمكنه من الاستمرار بخوض الأعمال القتالية، واستعادة تلك الجاهزية مرهون بسحبه من ساحة المعركة والعمل على ترميم وتعويض ما خسره وفقده من قوى ووسائط.

• الاعترافات اللاحقة التي تبناها الإعلام الرسمي الإسرائيلي نقلاً عن المصدر العسكري تؤكد أن الخسائر بالمعدات والأرواح في زيادة مضطردة في صفوف جيش الاحتلال، حيث تم الإعلان عن مقتل /13/ ضابطاً وجندياً في يوم واحد، وهذا ما أكده الناطق باسم قوات القسام أبو عبيدة ليل 24/12/2023م. موضحاً أن خسائر العدو في غضون أربعة أيام بلغت /35/ آلية و/48/ قتيلاً، أي بمعدل يومي: ثلاثة آليات بين دبابة وناقلة جند وجرافة وغير ذلك، و/12/ قتيلاً يومياً في صفوف قواته، فضلاً عن استمرار إطلاق الرشقات الصاروخية باتجاه مدن وبلدات الداخل أو ما يطلق عليه تسمية “البطن الرخو”.

• فقدان الجاهزية القتالية المطلوبة لاستمرار خوض الأعمال القتالية في لواء غولاني ولواء المظليين وسحبهما من ساحة المعركة يؤكد حقيقة عريضة مفادها: العجز عن تنفيذ أية أهداف مطلوبة من أية معارك برية، وما عجز عن تنفيذه اللواءان المذكوران لا يمكن لبقية تشكيلات الجيش الإسرائيلي المقامرة بمحاولة تنفيذه، لأن النتيجة محكومة بالفشل سلفاً، وبالتالي لا يبقى أمام نتنياهو وغالانت وبقية هذه الحكومة الفاشية إلا تصعيد الانتقام من الشعب الفلسطيني وزيادة الوحشية التي فاقت كل تصور عبر القصف الجوي والمدفعي والصاروخي، وهذا يزيد كثيراً عدد الضحايا في صفوف الأطفال والنساء والعجائز، ويفاقم المأساة الإنسانية أكثر فأكثر، لكنه لا يغير اللوحة الميدانية المتشكلة التي اكتملت معالمها العامة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر يوم انطلاق ملحمة طوفان الأقصى.

كل ما سبق ذكره يدل على أن ما يتم تسريبه تحت أي عنوان كان لا يصدر جزافاً، بل يكون إما لتهيئة الرأي العام الإسرائيلي لتقبل صفعة جديدة كبيرة، وهو المدلول الأقل سوءاً، وإما بسبب وصول الإعلاميين وكثير غيرهم إلى قناعة بضرورة شق عصا الطاعة، وكسر مقص الرقيب العسكري، وهما أمران أحلاهما مر.

مواضيع ذات صلة: