كنوز القدس بين السياسة والقداسة

لغةً، القدس كما جاء في الصحاح، القدْسُ والقُدسُ: الطُهرُ، اسم ومصدر، ومنه قيل للجنًّة، ” حظيرة القدس ” وروح القدس، جبريل عليه السلام، والتقديس: التطهير، وتقدس، أي تطهر وتبارك.
وكمدخل للحديث في هذا الموضوع، فإننا عندما نتحدث عن مدينة القدس كتاريخ وجغرافيا، فإننا نتحدث في نفس المعنى ايضاً، عن أكناف بيت المقدس ، والأكناف كما جاء في كثير من التفاسير الموثوقة، هي بلاد الشام وقلبها النابض دمشق، وهي الأرض المباركة التي بارك الله حولها، وقداسة القدس هي في جوهرها ، قداسة دينية ووطنية وقومية، إسلامية ومسيحية، لأن عروبة فلسطين هي اصل تاريخها، وفلسطين هي اكثر بقاع الأرض احتواء للمقدسات والأنبياء والرسل ، هي ارض الصخرة والقبة التي فوقها، ومزار وممر ومدفن النبي إبراهيم خليل الرحمن في خليله الشريف ، ومولد ومبعث عيسى عليه السلام، واولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وعتبة المعراج طريق الإسراء ، ارض الأقصى الشريف ، الذي نحت صخرته كان أول معبد للتوحيد والإيمان والسلام ،كهف ” ملكي صادق”، الذي استقبل إبراهيم الخليل ورحب به، وآواه عام 2000 قبل الميلاد، ملكي صادق، هذا الذي اختلفت الروايات حوله، فمن قائل انه نبي، إلى أنه ملك ، إلى أنه ولي من أولياء الله الصالحين، …الخ ، ولكن كل الروايات تتفق على انه كان عابداً لله وموحدا.
لقد عاش او مات او دفن، في ارض الأكناف، أكثر من أربعة وعشرون نبياً ورسولاً، ويقال أكثر من مئة، ويقال أكثر من ذلك بكثير.
اما الكنوز الأثرية داخل القدس، فهي أكثر من ان تعد او تحصى، المسجد الأقصى- قبة الصخرة- قبة السلسلة – الباب الذهبي – مهد عيسى عليه السلام – قبة يوسف – مسجد عمر بن الخطاب – قبة المعراج – القلعة – كنيسة القيامة – دير الزيتونة – كنيسة السيد المسيح وعدد كبير من الاديرة والكنائس والمساجد والدور والسبل والتكايا والخان قانات والاروقة والمدارس ودور العلم والاضرحة والقبور (فيها أكثر من أربعمائة قبر للعلماء ومقامات الصالحين والقادة ورجال الحكم )…الخ.
الوجود العربي في القدس، (وفلسطين عموماً)، هو وجود مستمر وغير متقطع، منذ أقدم العصور المعروفة في التاريخ، وكل الشعوب والقبائل الأخرى، التي تواجدت فيها لبعض الوقت، او لفترات متقطعة، انما هي شعوب وافدة او غازية او مهاجرة، استقر بعضها واندمج باهلها حتى زالت معالم شخصيتهم المستقلة حضاريا وثقافيا، وضاعت مع الزمن اصولهم الأولى، وهكذا كان شأن من وفدوا من اليونان والرومان والبيزنطيين والصليبيين …وبعضها الآخر، انقرض وزال مع الزمن.
على الجانب الآخر، جانب العدو الصهيوني ، فلننظر إلى مصادر الادعاءات والمزاعم التي اعتمدوا عليها في ادعاءاتهم ، في مجال تحديد وتسمية “المقدسات” المزعومة من قبلهم، إ ن مصدرهم الوحيد في هذا هو كتاب “التوراة” المزور وليس كلام الله، هذا الكتاب من يقرؤه، او يطلع عليه، سوف يدرك ببساطة ، انه مجرد كتاب بشري دنيوي ” لا علاقة له بالله ” ولا بالسماء ولا بالعقل ولا بالإنسانية، أي انه ليس كلام الله، فهو كتاب يحتوي على مجموعة من الخرافات والأساطير والقصص التي صيغت في اطار من الخيال والتوهم الحافل بمجافاة العقل والمنطق والأخلاق ، ومشبع بالسخف ومشاعر العدوان والتعطش للدماء واحتقار البشرية كلها، ذلك كله تم وضعه من قبل جماعات بشرية على مدى عقود، بعد موت موسى عليه السلام، بوقت طويل، هذه المجموعات البشرية، ” التي ادعت اليهودية ” والتي افترت على النبوة الإلهية السماوية ، وامعنت في التزوير والتشويه والحقد لخدمة اهداف وغايات عنصرية انعزالية عن البشرية جمعاء وغير أخلاقية ، ولا تمت للديانات السماوية بأية صلة، بل ومعادية في حقيقتها للدين اليهودي نفسه ،الذي جاء به موسى عليه السلام، فالله كما في توراتهم المزعومة، ليس هو الله رب العالمين، بل هو ( يهوه ) رب إسرائيل فقط…
في هذا الإطار، يقر الآثاريون، وعلماء التاريخ المعاصرون، نظرية وقاعدة علمية تقول:
ان كل حدث او سرد تاريخي، لم تثبت وجوده الآثار والأوابد الأثرية على الأرض، هو مجرد اسطورة او حكاية او خرافة.
عند منتصف القرن الثامن الميلادي ،ولأسباب اعتبرت تكتيكية وسياسية وليست دينية، اعتنق سكان منطقة بحر الخزر، الديانة اليهودية بالتبشير وليس وفق الانتماء العرقي، كما هو معمول به لدى اليهود ، وذلك لكي يناوأ بأنفسهم في ذلك الوقت ، عن الصراع الدائر حينها بين القوتين العظميين، وهما الإسلامية والبيزنطية، وكَوّنوا شبه دوله لهم في منطقة القوقاز، ولكن هذه الدولة انهارت ما بين القرنين العاشر والثالث عشر الميلادي، مما أدى إلى هجرتهم وتشتتهم في كل انحاء أوروبا ،وخاصة بولندا ، حتى أن بعض المصادر الغربية، وحتى الصهيونية، تقول ،ان كل سكان إسرائيل الحاليين هم من أولئك “اليهود”…
نقول هذا، ليس لإقناع أحد ،بأن الكيان ” الإسرائيلي” إلى زوال فحسب، فالكيانات المصطنعة ذات “وجود” مؤقت حتماً، فليبحثوا عن ” جذورهم” في مكان آخر…اذا كانت تلك جذور…
تتعرض القدس هذه الأيام، إلى حملات واعتداءات ومحاولات ضم وتهويد متسارعة، وبدعم وتشجيع امريكي مباشر ، من قبل الصهاينة الغاصبين والمعتدين على التاريخ والإنسانية، تريد ” إسرائيل ” من وراء ذلك، وبمطالبتها بما يسمى ” يهودية الدولة وادعائها بوجود “الهيكل” المزعوم، تحت المسجد الأقصى، تريد العمل على تكريس كون إسرائيل قبلة وملجآ لكل شذاذ الآفاق اليهود في العالم، وكسب دعمهم وتمويلهم، كما انها بالأساس، محاولة إجرامية وشريرة بحق التاريخ والبشرية كلها، كونها تهدف إلى نفي القداسة الإسلامية والمسيحية عن القدس، وتثبيت مزاعم “القداسة” اليهودية، والسيطرة الكاملة مستقبلا على كل مقدسات القدس الحقيقية، وتهجير ما تبقى من اهل فلسطين عام 1948 م. لإضفاء الصفة الديمغرافية اليهودية على الكيان الصهيوني ( ما يسمى بيهودية الدولة )، وكذلك تهميش التاريخ الإسلامي والمسيحي في فلسطين وطمسه من الواقع والتاريخ.
نقول كل ذلك، معتمدين على تاريخ وواقع، نفخر بانه كان إنسانيا وحضاريا لكل البشرية، وعلى ممارسات كانت بوضوح، منارة وانارة وحضارة شقت ظلام الظلم في كل ارجاء العالم وعبر الاف السنين، والفضل ما شهدت به الأعداء، كما ان مسالة التجذر التاريخي لأمة من الأمم، لا يمكن ان تجتث بالتزوير، او بتشويه يرفضه العقل والواقع، لأن من بنى حضارة في كل بقاع الأرض، لا يمكن ان يكون طارئا في التاريخ او جاهلا بالحضارة.
ان الحرب الإرهابية الأخيرة على سورية المجد والحضارة والسؤدد، هي في الحقيقة جزء من محاولات العدو، تدمير قلعة الحضارة العربية والصمود العربي كما كانت عبر التاريخ، وكانت هذه الحرب الإرهابية بالفعل، جزء أساسي من المخطط الصهيوني الامبريالي على امتنا ومنطقتنا، وفق الرؤية الصهيونية المجرمة ،لقد خمنوا ان ضرب حارس القضية هو اسهل طريقة لإنهائها، لكنهم لم يدركوا بعد، ان حارس القضية هو التاريخ نفسه ، وهو البطل المقاوم الذي عرف وادرك، اننا امة لا تعرف الهزيمة، لقد استعمرا ارضنا عقودا وقرونا، ولكنهم عرفوا أخيرا ان الحكمة والصمود والمقاومة ، والرئيس الحكيم والشجاع بشار الأسد ، اقوى من كل امبراطوريات الشر في العالم ، وأساسا ومعهم كل اذنابهم وأفكارهم العليلة.
ان تحير فلسطين هو واجب كل فلسطيني وعربي وكذلك كل واسلامي ومسيحي
لأن كنوز القدس، هي ملك وحق تاريخي علينا جميعا
وليخسأ دعاة الاستسلام الأشرار.
المهندس كمال الحصان
كاتب وباحث

مواضيع ذات صلة: