تاريخ الصحافة الفلسطينية.. كم أفواه فرضته حقب الاحتلال

بقلم: إيلي يوسف
بعد رفع الرقابة على الصحافة في الدولة العثمانية عام 1908، بدأت الصحف الناطقة باللغة العربية في فلسطين بالظهور، والتي عبرت منذ أيامها الأولى عن التطلعات العربية، وعارضت الصهيونية وبدأت في استخدام مصطلحي “فلسطين” و”فلسطينيين”، لكن سرعان ما قُمعت الصحافة الناشئة بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى في 1914.
في زمن الانتداب البريطاني في 1920، أصبحت الصحافة الفلسطينية أكثر تنوعاً، وصدرت أكثر من 250 صحيفة عربية و65 صحيفة بلغات أخرى في فلسطين الانتدابية بحلول منتصف الثلاثينيات. بدأ البريطانيون في فرض إجراءات تقييدية بعد 1929، وأوقفوا العديد من المطبوعات الرئيسية خلال الثورة العربية 1936-1939. وحين اندلعت الحرب العالمية الثانية في 1939، أغلقت السلطات البريطانية جميع الصحف.
كما أدى احتلال “إسرائيل” للضفة الغربية وقطاع غزة في أعقاب حرب 1967 إلى إخضاع الصحافة الفلسطينية للرقابة العسكرية الإسرائيلية، والتي استمرت حتى إنشاء السلطة الفلسطينية في 1993.
خلفية تاريخية
بدأ استخدام آلة الطباعة في فلسطين من قبل المؤسسات المسيحية لإنتاج المطبوعات الدينية، أولاً من قبل الكنيسة الفرنسيسكانية في القدس في 1846، وتبعتها بعد ذلك الكنيستان الأرمنية واليونانية. وكانت الصحيفة الوحيدة التي صدرت في فلسطين هي جريدة اسمها «القدس الشريف» في 1876، مكتوبة باللغتين العربية والتركية العثمانية، وحررها الشيخ علي الريماوي وعبد السلام كمال على التوالي، لكنها أُغلقت بعد فترة وجيزة وأعيد افتتاحها في 1903. ولم تعاود الدوريات العربية الظهور في فلسطين إلا بعد ثورة تركيا الفتاة في 1908، التي رفعت الرقابة على الصحافة في الدولة العثمانية.
الاحتلال العثماني
تزايد خوف الصحف الفلسطينية من موجات المهاجرين اليهود الأوروبيين إلى فلسطين، الذين بنوا مستوطنات تعتمد على العمالة اليهودية وتستبعد العمالة العربية. وهكذا، بدأ المحررون العرب حملة توعية عامة، مُحذرين من أنه بمجرد تحقيق المشروع الصهيوني، ستضيع الأغلبية العربية وأراضيها في فلسطين.
كان أحد المواضيع الشائعة في الصحافة خلال هذه الفترة المبكرة هو النقد الموجه نحو المهاجرين اليهود الأوروبيين الذين فشلوا في الاندماج، أو عناء تعلم اللغة العربية. وقد فضل المحررون العرب رفع هذه القضية إلى اهتمام الجمهور بدلاً من السلطات العثمانية، حتى يصبح الجمهور نشطاً في منع بيع الأراضي لليهود، مما سيؤدى إلى طرد الفلاحين العرب، وخسارتهم لأعمالهم فيما بعد.
الانتداب (1917-1948)
تعرضت الصحافة الفلسطينية للقمع بسبب اندلاع الحرب العالمية الأولى في 1914، فقد اعتمد البريطانيون قانون الصحافة العثماني الذي فرض على الصحف حتى اشتباكات ثورة البراق في فلسطين في 1929 بين العرب واليهود. أدت أحداث ذلك العام إلى تعاظم الحس القومي في الصحف العربية، وغير البريطانيون موقفهم المتسامح في البداية إلى نهج أكثر تقييداً.
أصبحت صحيفة فلسطين أول صحيفة فلسطينية تنجح في ترسيخ نفسها كصحيفة يومية في تشرين الأول 1929، بعد شهر من بدء نشر طبعة أسبوعية باللغة الإنكليزية.
أصدرت السلطات البريطانية قانون المطبوعات الجديد ولوائح أخرى في 1933 أعطتها سلطة إيقاف الصحف ومعاقبة الصحافيين، مما أدى إلى تقييد حرية الصحافة. ونتيجة لذلك، كثفت الصحافة من استخدام أسلوب الكتابة العامية، خاصةً خلال الثورة العربية في فلسطين 1936-1939. أوقفت العديد من الصحف الرئيسية لفترات طويلة بين عامي 1937 و1938، بما في ذلك فلسطين والدفاع واللواء. كما أُعلنت الأحكام العرفية بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية في 1939، وأغلق البريطانيون جميع الصحف تقريباً، باستثناء صحيفة فلسطين والدفاع، وذلك بسبب نشر الأخبار الخاضعة للرقابة وتبني مواقف أكثر اعتدالاً.
حرب (1967)
شهدت حرب 1967 احتلال “إسرائيل” للضفة الغربية وقطاع غزة، وفي ظل الاحتلال الإسرائيلي، خضعت الصحف الفلسطينية للرقابة العسكرية الإسرائيلية، وكان يُصدر في الأراضي المحتلة 22 صحيفة، و20 مجلة بين عامي 1967 و1987، مما أعطى الأولوية للقضايا الناجمة عن الاحتلال الإسرائيلي عن المواضيع الثقافية والاجتماعية والفنية. وشهد اندلاع الانتفاضة الأولى ضد الاحتلال في 1987 زخماً إعلامياً عالمياً لفترات طويلة، مما أدى إلى توظيف صحافيين فلسطينيين. كما بدأت الصحف العربية الخاصة تظهر في الناصرة من إصدار عرب 48، بما في ذلك الصنارة وكل العرب وفي عامي 1983 و1987 على التوالي.
في أعقاب عملية السلام، وبالتحديد اتفاقيات أوسلو 1993، تأسست السلطة الوطنية الفلسطينية في ذلك العام، مما وضع حداً للرقابة العسكرية الإسرائيلية، عندما حل قانون الصحافة الفلسطيني محل اللوائح العسكرية الإسرائيلية. وفي وقت لاحق، تأسست العديد من الصحف مثل «الحياة الجديدة» ومقرها رام الله في 1994، و«الأيام» في 1995. كما سمح رفع الرقابة العسكرية الإسرائيلية للفلسطينيين بتصاعد مطالبهم حول حق العودة.
المؤرخ الفلسطيني الأمريكي رشيد خالدي
كتب المؤرخ الفلسطيني الأمريكي رشيد خالدي في كتابه المعنون “حرب المائة عام على فلسطين”: «إحدى الآفاق الرحبة لتصورات الفلسطينيين عن أنفسهم وفهمهم للأحداث بين الحروب هي الصحافة الفلسطينية. وكانت صحيفتان، هما: فلسطين، الصادرة عن عيسى العيسى في يافا، والكرمل، التي يصدرها في حيفا نجيب نصار، من معاقل الوطنية المحلية، ومنتقدي الوفاق الصهيوني البريطاني والخطر الذي يشكله على الأغلبية العربية في فلسطين. وكانتا من أكثر المنارات تأثيراً في فكرة الهوية الفلسطينية». الصحافة اليوم
اليوم يشهد الصحافيون الفلسطينيون الذين يغطون تقاريرهم من الأراضي المحتلة قيوداً ومخاطر، حيث شهد عام 2023 أعداداً قياسية من الصحافيين الفلسطينيين الذين اعتقلوا وقتلوا على يد الجيش الإسرائيلي، إذ لم يسجل التاريخ قتل الصحفيين بهذا العدد الكبير كما هو الحال اليوم في الحرب الهمجية على غزة، حيث تجاوز عدد الصحفيين الذين قتلوا أثناء حرب “إسرائيل” المستمرة على غزة إلى نحو /100/ صحفي وإعلامي.
هذا العدد أكبر من عدد الصحفيين الذين قتلوا في العراق، أو أفغانستان، أو اليمن، أو أوكرانيا، حيث قتل منذ بدء الحرب في أوكرانيا 11صحفياً، سبعة منهم قتلوا خلال الشهر الأول. ويتجاوز عدد الصحفيين الذين قتلوا في الحرب على غزة في أسبوعين عدد الصحفيين الذين قتلوا في الأيام العشرين الأولى من الحرب في العراق عام 2003، وكذلك يفوق عدد الصحفيين الذين قتلوا في أفغانستان عام 2001، في أعقاب أحداث 11 أيلول مباشرة.
في 31 تشرين الأول 2023، تقدمت منظمة “مراسلون بلا حدود” بشكوى بشأن جرائم حرب ارتكبت ضد صحفيين فلسطينيين في غزة. واعتبرت المنظمة أن حجم الجرائم التي تستهدف الصحفيين وخطورتها وطبيعتها المتكررة تندرج في نطاق جرائم الحرب، وتستدعي إجراء تحقيق من قبل المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية.
تُعد هذه الشكوى الثالثة التي تقدمها مراسلون بلا حدود بشأن جرائم الحرب ضد الصحفيين الفلسطينيين في غزة منذ عام 2018. قدمت الأولى في أيار 2018 بشأن الصحفيين الذين قتلوا أو أصيبوا في غزة خلال احتجاجات مسيرة العودة الكبرى. أما الثانية فقدمت في أيار 2021 بعد الغارات الجوية الإسرائيلية على أكثر من 20 وسيلة إعلامية في قطاع غزة. فهل ستذهب هذه الشكاوى وغيرها من القضايا التي ترفع ضد “إسرائيل” أبعد من مكاتب المحكمة الدولية أو أي مؤسسة دولية أخرى؟.

مواضيع ذات صلة: