*محمد الراجي ـ مركز الجزيرة للدراسات*
يحاول التعليق الإجابة عن سؤال مركب بشأن دور الإعلام الإسرائيلي في الإبادة الجماعية التي تقوم بها إسرائيل في غزة: ما المنظور الذي يُؤَطِّر تغطية الإعلام الإسرائيلي للإبادة الجماعية في غزة؟ كيف شكَّل هذا الإعلام مجالًا (ميدانًا) لخطاب الكراهية وأداة رمزية للتحريض على القتل الممنهج للفلسطينيين والتحضير لفعل الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني؟ هل يمثِّل الإعلام الإسرائيلي نمطًا لإعلام الإبادة الجماعية الذي برز في سياق الحرب الأهلية الرواندية؟ ما الذي يميز نموذج إعلام الإبادة الإسرائيلي عن النموذج الرواندي؟
عملية الإبادة الجماعية التي تقوم بها إسرائيل في غزة، منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، استخدم فيها جيش الاحتلال جميع الأسلحة التي تعكس عقيدة التوحش، والتدمير البنيوي لمظاهر الحياة الإنسانية، بصورة لم يشهدها التاريخ الحديث والمعاصر للحروب والنزاعات (إبادة المنازل، تدمير البنية التحتية، إبادة معالم الهوية الثقافية والدينية، سلاح التطهير العرقي، التهجير القسري، سلاح الجوع، الحصار…). وكان هناك سلاح آخر لا يقلُّ تدميرًا وفتكًا بكيان الشعب الفلسطيني من الأسلحة المذكورة، وربما يكون أشدها تأثيرًا في مجريات الحرب وتطوراتها العسكرية وتداعياتها الإنسانية، وهو سلاح الإعلام الذي وظَّفته إسرائيل ليكون جزءًا من الوسائل المنوط بها تحقيق ما تُسمِّيه “النصر المطلق”. وقد تجاوز هذا الإعلام دور الترويج لأطروحات الدعاية الإسرائيلية عن “حق إسرائيل في الدفاع عن النفس” لمواجهة ما تراه “إرهابًا فلسطينيًّا”، وتنشيط خطاب الكراهية والقتل الممنهج للفلسطينيين، وانخرط في تقديم الوصايا والحلول مُتَبَنِّيًّا الأيديولوجية الصهيونية التي ترى الخلاص في “إبادة غزة” ومحوها من على الخريطة الجغرافية، وتسريع “الحل النهائي” للقضية الفلسطينية عبر الإبادة الجماعية لسكان القطاع.
يندرج هذا النمط من الإعلام، الذي يُسْتَخْدَم أداة لبث خطاب الكراهية والتحريض على القتل والانتهاكات الجسيمة، وإلحاق الأذى بالأفراد، والتدمير الممنهج لجماعة قومية أو إثنية أو دينية، كليًّا أو جزئيًّا، ضمن ما تُسمِّيه بعض دراسات تاريخ الإعلام والنزاعات بـ”إعلام الإبادة الجماعية”. وهو المفهوم الذي أصَّله المؤرخ الفرنسي جون بيير كريتيان (Jean-Pierre Chrétien) في دراسة بعنوان “رواندا: وسائل إعلام الإبادة الجماعية” (Rwanda: Les médias du genocide)، التي صدرت عام 1995، وتُقارِب من منظور عابر للتخصصات حالة الحرب الأهلية الرواندية بين أغلبية الهوتو وأقلية التوتسي (1990-1994)، وتُحلِّل دور الإعلام في تسعير هذه الحرب، وتنشيط الإبادة الجماعية ضد التوتسي. وبعد مرور عشرة أعوام ونيف على صدور هذا الكتاب، حظي مفهوم إعلام الإبادة الجماعية بالدراسة والتحليل المعمقين، لكن هذه المرة في إطار عمل بحثي جماعي أشرف عليه الأكاديمي الكندي، آلان تومبسون (Allan Thompson)، أستاذ الإعلام في كلية الصحافة والاتصال بجامعة كارلتون الكندية، بعنوان “وسائل الإعلام والإبادة الجماعية في رواندا”، عام 2007 (The Media and the Rwanda Genocide).
تُمثِّل أطروحات هذين الكتابين بناء معرفيًّا لمفهوم إعلام الإبادة الجماعية ومنطلقاته الفكرية وأطره السياسية والأيديولوجية، من خلال البحث في سياق نشأة وسائل الإعلام التي اهتمت بالدعاية للحرب الأهلية و”تسخينها”، وأيضًا استنهاض وتعبئة الجمهور/الهوتو للمشاركة فيها، مثل صحيفة “كانغورا” (Kangura) و”إذاعة وتليفزيون التلال الألف” Radio Télévision Libre des Mille Collines))، وتحليل بنية الخطاب التحريضي/الإبادي لهذه الوسائل، ووظيفته في سياق الحرب الأهلية الرواندية، ورصد أسماء أبرز الصحفيين والإعلاميين من الهوتو الذين تجنَّدوا لاستخدام سلاح الإعلام لمواجهة التوتسي، والدعوة إلى “الحل النهائي” أو “الحل الشامل” للقضاء على قوتهم ونفوذهم السياسي والمالي. ولئن كان السياق الذي أُنْتِج فيه هذا البناء المعرفي عن إعلام الإبادة الجماعية، في ظل الحرب الأهلية الرواندية، يختلف كليًّا عن حالة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والحرب المدمرة على غزة، فإن الأطر الفكرية والجهاز المفاهيمي لهذين العملين البحثيين لا يزالان يملكان قوة نظرية وتفسيرية لما يقوم به الإعلام الإسرائيلي في حرب الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني منذ السابع من أكتوبر. ويرجع ذلك أساسًا إلى السياق العام لفعل الإبادة الذي يحتاج إلى أدوات رمزية/دعائية -تتحوَّل مع مرور الوقت إلى سلاح دمار شامل- تُساعد الفاعلين السياسيين والعسكريين في التمهيد لإشعال فتيل الحرب “من أجل تحقيق النصر الحاسم/المطلق”. وقد نبَّه الأكاديمي وليام شاباص (William Schabas)، أستاذ القانون الدولي في جامعة ميدلسيكس بلندن والمتخصص في قضايا الإبادة الجماعية والمحكمة الجنائية الدولية وحقوق الإنسان، إلى دور الدعاية التي تُسْتَخْدَم في “التحضير للإبادة الجماعية عبر قصف الأكاذيب وبث خطاب الكراهية المُوَجَّه ضد المجموعة المستهدفة”. ويشير ذلك إلى طبيعة الفعل الإبادي ونسقيته، وعلاقته بالسلوك الاتصالي، الذي يُعد جزءًا من السلوك الاجتماعي والسياسي، للفاعلين خلال الإبادة الجماعية، مهما اختلفت متغيرات الأحداث وسياقاتها؛ إذ إن الفعل الإبادي كاشف لعقيدة التوحش والنزعة التدميرية لإفناء الآخر، والقضاء على وجوده المادي والرمزي، باستخدام جميع الأسلحة الممكنة بما في ذلك سلاح الإعلام.
وهنا، يحاول هذا التعليق الإجابة عن سؤال مركب بشأن دور الإعلام الإسرائيلي في الإبادة الجماعية التي تقوم بها إسرائيل في غزة: ما المنظور الذي يُؤَطِّر تغطية الإعلام الإسرائيلي للإبادة الجماعية في غزة؟ كيف شكَّل هذا الإعلام مجالًا (ميدانًا) لخطاب الكراهية وأداة رمزية للتحريض على القتل الممنهج للفلسطينيين والتحضير لفعل الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني؟ هل يمثِّل الإعلام الإسرائيلي نمطًا لإعلام الإبادة الجماعية الذي برز في سياق الحرب الأهلية الرواندية؟ ما الذي يميز نموذج إعلام الإبادة الإسرائيلي عن النموذج الرواندي؟
وكلاء الحرب والإبادة الجماعية
أَنْشَأ فعل الإبادة الجماعية حالة نفسية مندفعة للاستجابة والإقرار بالقتل الممنهج والانتهاكات الجسيمة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، تكاد تسيطر على سلوك جميع أفراد وفئات المجتمع الإسرائيلي. وقد ظهرت هذه الحالة المزاجية في الشوارع العامة بإسرائيل، من خلال انتشار لافتات حمراء كُتِب عليها “إبادة غزة”، ولا تقول: “دمِّروا أو اسحقوا غزة”، بل “تدعو صراحة وبوضوح إلى الإبادة”. ويسود هذا الاندفاع الذي يستجيب للقتل والإبادة الجماعية في كل المجالات التقليدية وغير التقليدية؛ إذ انتشرت فيديوهات كثيرة لجنود الجيش الإسرائيلي عبر شبكات التواصل الاجتماعي يتباهون فيها بجرائم القتل، وإبادة المنازل وسرقة أموالها وحلي نسائها، والتدمير الممنهج لكل مظاهر الحياة الإنسانية في غزة. وظهر أيضًا جنود سابقون خدموا في الجيش الإسرائيلي، وكتَّاب وأدباء (عزرا ياخين وغيره)، وفنانون (مثال إيال غولان)، يطالبون بـ”محو غزة” وإفناء كل شخص يوجد في القطاع، وحاخامات (إلياهو مالي نموذجًا) يحضون أفراد الجيش على قتل الأطفال والنساء طبقًا للشريعة اليهودية، والإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني. وامتد ذلك إلى الجمهور الإسرائيلي؛ إذ ظهر أفراد عبر منصات التواصل الاجتماعي يحثون قوات الجيش على “قتل الفلسطينيين واحدًا تلو الآخر”. وقد تشبَّع هذا الخطاب التحريضي للجمهور الإسرائيلي بالخطاب السياسي والعسكري الذي ظل يُقدِّم الفلسطينيين طوال الحرب بصورة تُجرِّدهم من صفاتهم الإنسانية؛ إذ تقرنهم بـ”الحيوانات البشرية”، وهو الخطاب الذين يُشَرْعِن استباحة دم الشعب الفلسطيني وإبادته.
في سياق هذه الحالة النفسية العامة المندفعة إلى الاستجابة لفعل الإبادة الجماعية والحماسة لآثاره، برز دور الإعلام الإسرائيلي، والصحفيين الإسرائيليين الذين تبنَّى معظمهم الخطاب التحريضي لقتل الفلسطينيين، والدعوة إلى “إبادة غزة” على شاشات التليفزيونات المحلية والدولية ومنصات الشبكات الاجتماعية. وأصبح بعض هذه الوسائل، مثل صحيفة “إسرائيل هيوم” (Israel Hayom)، ناطقًا باسم الجيش الإسرائيلي والتيار اليمني الصهيوني المتطرف في إسرائيل، يقود النزعة الإبادية في المجتمع. ويُطالِب كتُّاب الرأي فيها بتوسيع الإبادة الجماعية في الضفة الغربية، وأن “يقوم الجيش الإسرائيلي في المناطق التي تُسيطر عليها السلطة الفلسطينية في يهودا والسامرة بما يفعله الآن في غزة” للقضاء على ما يُسمِّيه هؤلاء الكتُّاب بـ”الإرهابيين والبنية التحتية الإرهابية بشكل نهائي”. ليس هذا فحسب، بل يقوم بعض الصحفيين، مثل ديفيد فوكس، وماكور ريشون، بدور ضباط الشاباك وجهاز المخابرات الإسرائيلي (الموساد)، من خلال وضع “دليل القضاء على أعداء إسرائيل” للجمهور الإسرائيلي، ومَأْسَسَة الاغتيالات عبر تحديد الخطوات العملية لاستهداف قادة المقاومة الفلسطينية بدءًا برصد الهدف، والتوقيت والسلاح المناسبين، وما يحتاج هذا الجمهور لمعرفته لرسم خطة تفصيلية لتصفية الضحايا. ويُمثِّل ذلك توجيهًا وحضًّا على اعتماد سياسية الاغتيالات في التعامل مع رموز المقاومة وقيادة الشعب الفلسطيني، ما يجعل الدليل أشبه بالوصايا الخاصة التي تُبيِّن للجمهور كيفية الخلاص ممن يُصنِّفهم “أعداء إسرائيل”.
وهنا، تتجاوز “إسرائيل هيوم” دور التحريض على القتل ودعم سياسة الاحتلال في غزة، وهو ما تقوم به أيضًا صحف أخرى مثل “تايمز أوف إسرائيل” (The Times of Isreal)، و”جيروزاليم بوست” (The Jerusalem Post) التي تحث الجمهور الإسرائيلي على “بذل كل ما في وسعنا لدعم جنودنا وجيش الدفاع الإسرائيلي، خصوصًا أولئك الذين يقاتلون أعداءنا في الشمال والجنوب”. وباتت “إسرائيل هيوم” وغيرها من الصحف وكلاء للحرب؛ إذ تُسَخَّر أدوات أمنية وعسكرية مُوجَّهة نحو تحقيق أهداف إستراتيجية، لاسيما مَأْسَسَة الخوف والإرهاب في نفوس “أعداء إسرائيل”، وتجييش العالم ضد ما تراه “الإرهاب الإسلامي؛ إذ سيأتي دور المسيحيين بعد اليهود. لذلك فإن الحرب على غزة تُمثِّل حرب العالم الحر كله”. وهذا ما جعل عددًا من الصحفيين الإسرائيليين يدعو إلى إبادة الشعب الفلسطيني، منذ بداية الحرب على غزة، مثل تسفيكا يحزقيلي، محرر الشؤون العربية للقناة الـ13، الذي طالب أن “تبدأ أول ضربة بقتل مئة ألف فلسطيني في غزة”. ولا يقيم بعضهم، مثل روعي شارون، المراسل العسكري للقناة الـ11، أي اعتبار للضحايا الفلسطينيين في سبيل القضاء المبرم على المقاومة: “إذا كنا بحاجة إلى مليون جثة من أجل القضاء النهائي على القدرات العسكرية لحماس، بما في ذلك السنوار والضيف، فليكن هناك مليون جثة”.
هذا الدور الوظيفي الأمني/العسكري، الذي يَتَمَثَّل فيه الصحفي الإسرائيلي “الواجب العسكري” والمحارب في كتائب جيش الاحتلال، يجعل الإعلاميين الإسرائيليين جزءًا من جهاز الإعلام الحربي حتى لو كانوا لا ينتسبون إلى المؤسسة العسكرية؛ إذ يُعد هؤلاء وكلاء للجيش الإسرائيلي يقومون بأعمال ووظيفة جهاز الإعلام العسكري من خلال اعتماد معجم المحو والإفناء والقضاء على “المخربين في غزة”، ثم خطاب الإبادة الجماعية لتدمير الشعب الفلسطيني كليًّا أو جزئيًّا، فضلًا عن العلامات والإشارات السيميائية التحريضية على القتل الممنهج، مثل ظهور صحفي القناة الـ12، داني كوشمرو، في الأستوديو حاملًا بندقية، وصور ليتال شيمش، المذيعة في القناة الإسرائيلية الـ14، وهي تضع سلاحًا على خصرها داخل الأستوديو. لذلك يمكن تسمية هذه الصحافة بـ”إعلام الزناد”، أو “إعلام القتل”، الذي لا يكتفي بالتحريض على اغتيال الفلسطينيين والحض على إبادتهم، بل يُشارك في هذه الإبادة الجماعية من خلال تقديم التعليمات والتوجيهات والإرشادات للجمهور الإسرائيلي بمتطلبات التخطيط لاغتيال رموز وقادة المقاومة الفلسطينية، ودعم جهود الجيش الإسرائيلي لـ”محو وإبادة غزة”.
ويبدو أن الحالة الإعلامية الإسرائيلية، من خلال النماذج السابقة، تستلهم حالة الإعلام الرواندي خلال الحرب الأهلية؛ إذ كانت “إذاعة وتليفزيون التلال الألف” (RTLM) تُوصف بـ”راديو الكراهية” الذي يدعو أغلبية الهوتو إلى “اليقظة اللازمة” و”النهوض كرجل واحد” و”الدفاع عن النفس” لمواجهة أقلية التوتسي. ويُحرِّض هذا الإعلام أيضًا على قتل “الأعداء” بعد شيطنتهم وتجريدهم من صفاتهم الإنسانية، فكان الصحفيون ومنشطو برامج الإذاعة ينعتون التوتسي بـ”الصراصير” و”الأفاعي” و”الكلاب” و”الحيوانات المتوحشة”. ويبثون على الهواء مباشرة أسماء الأشخاص الذين يجب اغتيالهم بعد تحديد أماكن إقامتهم. ولذلك سُمِّيت “إذاعة التلال الألف” أيضًا بـ”راديو الساطور”، في إشارة إلى أن “القتلة كانوا يحملون الساطور في يد، والإذاعة في يد”. واستخدمت المحطة جميع الوسائل التحريضية للحث على قتل التوتسي؛ إذ كانت تطلب من جمهور الهوتو تغيير سلوكه تجاه “الأعداء”، والتعامل معهم بطريقة مختلفة لإلحاق الهزيمة بهم وإبادتهم. ولهذا الغرض كانت تبث أغاني حماسية متطرفة للمغني سيمون بيكيندي (Simon Bikindi) لتعبئة الهوتو من أجل القضاء على التوتسي. لكن المقارنة السريعة بين الحالتين الإعلاميتين، رغم اختلال السياقات والظروف والأحداث، تُظهر أن الحالة الإسرائيلية تجاوزت نمط الاستلهام، وربما تُعد من أخطر تجارب إعلام الإبادة الجماعية؛ إذ ظلت هذه الحالة المتوحشة تنزع إلى غرس الفعل الإبادي في المجتمع الإسرائيلي بصور مختلفة سيكولوجية وثقافية؛ إذ تبدأ بالاستجابة وخلق حالة نفسية مندفعة، ثم التحريض والتوجيه والإرشاد والتعليمات والوصايا، ثم المشاركة في “الواجب العسكري” الذي حوَّل هذا الإعلام إلى سلاح دمار شامل.
الحل النهائي
ظل الإعلام الإسرائيلي يحرص على توطيد الخوف في الذات الفلسطينية من خلال خطابات مختلفة (التحريض، التشويه، الشيطنة، إرشادات ووصايا اغتيال رموز وقادة المقاومة…). ويشير ذلك إلى جهود هذا الإعلام في مَأْسَسَة القتل الممنهج والإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني لتكون “النظام الجديد السائد” في هذه المرحلة من تاريخ القضية الفلسطينية، و”القانون الجديد” الذي يتعامل بمقتضاه الجيش الإسرائيلي مع الشعب الفلسطيني. وهنا، يُكرِّس الإعلام مسألة “الحل النهائي” للقضية عبر الإبادة الشاملة (إبادة الجماعة كليًّا) ومحو كيان الشعب الفلسطيني، وليس ذلك فحسب، بل إن الحل النهائي يتطلب تهجير الفلسطينيين والاستيلاء على الأرض، وبناء المستوطنات وإحلال الإسرائيليين مكان الشعب الفلسطينيين. وهو الحل الذي تدعو إليه صراحة صحيفة “إسرائيل هيوم”: “إن النصر المطلق لا ينتهي بقتل أعدائنا وتدمير مجتمعاتهم. فالقانون القديم في المنطقة يُعلمنا أن أعمق تصور لهزيمة العدو هو أن ننزع الأرض منه. وهذا يعني أن المكان الذي يُستخدم قاعدة لذبح اليهود وقتلهم سيتم تدميره وتحويله إلى أرض إسرائيلية. وقد أظهر التاريخ الحديث أن كل مكان انسحبنا منه أصبح منطلقًا لقتلنا وسفك دمائنا. ويمكننا أن نرى بوضوح، حتى في الحرب الحالية، أن رموز السيادة التي يفرضها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة هي الأكثر إيلامًا لأعدائنا: الأعلام والطرق والبؤر الاستيطانية، وكلنا أمل أن نرى في المستقبل عودة المستوطنات الإسرائيلية إلى تلك المنطقة”.
إذن، نلاحظ أن إعلام الإبادة الجماعية يستعين في مقاربته للحل النهائي باستحضار ثقل التاريخ المعاصر واستدعاء ما يراه حافزًا للنصر المطلق، وهو “روح التاريخ لعام 1948، والزخم الهائل للجنود الإسرائيليين خلال الحرب الذي يمدهم بالشجاعة للقيام بما قرَّره التاريخ بشأن الدفاع عن حياة الإسرائيليين وطرد الشر من العالم”، وهو ما يعني العودة لأساليب العصابات الصهيونية التي قامت بالتطهير العرقي للشعب الفلسطيني والتهجير القسري للسكان من ديارهم وقراهم وأرضهم بعد تدميرها. ويعتمد هذا الإعلام أيضًا على المقدس الديني في إنجاز الحل النهائي باستدعاء النصوص التوراتية (الأسفار الخمسة) التي تُلْهِب اعتقاد الإسرائيليين بضرورة إنجاز الإبادة الشاملة: “اجعل الأرض خرابًا فيرتاع منها أعداؤكم المستقرون فيها”. ولذلك أسميناه بـ”إعلام الدمار الشامل” الذي تجاوز “إعلام الساطور” الرواندي بمراحل.
ويُشير بث هذا الاعتقاد (الحل النهائي) في نفوس الإسرائيليين إلى أيديولوجيا العنصرية التي يقوم عليها الكيان الإسرائيلي؛ إذ لا يقبل البتة بالتعايش مع الفلسطينيين لا في أرض ولا في دولة واحدة، ولا حتى في إطار حل الدولتين، بل المطلوب هو الإبادة الشاملة للشعب الفلسطيني، ولا يجب أن يكون هناك مجال لأي مشاعر بالشفقة أو المعاملة الإنسانية للفلسطينيين الذين تراهم المؤسسة السياسية والعسكرية مجرد “حيوانات بشرية” يجب منع الماء والغذاء عنها وحرمانها من الرعاية الصحية وقتلها بسلاح الجوع والحصار والتطهير العرقي والتهجير القسري والأسلحة الفتاكة.
هذه الأيديولوجيا التي تؤمن بالحل النهائي روَّج لها أيضًا في السابق الإعلام الرواندي المقرب من السلطة، مثل “إذاعة وتليفزيون التلال الألف”، وصحيفة “كانغورا”؛ إذ كان يرى أن الإبادة الشاملة للتوتسي تُعد الحل النهائي لاستئثارهم بالسلطة السياسية والنفوذ المالي في روندا. ولذلك شارك الإعلام في هذه الحرب الأهلية التي يراها حربًا “من أجل الموت أو الحياة”؛ إذ ليس هناك أي مجال للتعايش بين الهوتو والتوتسي، فقد “تخلى الله عنهم، والمتدينون يلعنونهم، والشيطان لا يرحب بهم”، و”ليس أمامهم سوى الانتحار”، “ولا يمكن معالجة قوة الأعداء إلا بالإبادة الشاملة”. وكانت أطروحات هذه الأيديولوجيا وردت في “الوصايا العشر” التي نشرتها صحيفة “كانغورا”، في العدد السادس، ديسمبر/كانون الأول 1990.
يتضح من خلال رصد حالة إعلام الإبادة الجماعية، في سياق الحرب التي تشنُّها إسرائيل على غزة، أن وسائل الإعلام أسهمت بدور كبير في مَأْسَسَة العنف والجرائم الجسيمة التي ارتكبها جيش الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، بل أصبح هذا الإعلام وكيلًا للحرب والإبادة الجماعية التي يقوم بها الاحتلال في فلسطين. ويُظهِر ذلك خطورة الدور الوظيفي للإعلام عندما يتحوَّل إلى سلاح للتدمير البنيوي في يد الصحفيين والإعلاميين الذين يرتهنون إلى “الواجب العسكري”. ويحاول هذا الاستدعاء للواجب العسكري ترسيخ بناء اجتماعي لحقائق سياسية وأيديولوجية تختزلها “الإبادة الجماعية المتوحشة” كما أسماها الأكاديمي محمد الشرقاوي. وقد أصبحت هذه الإبادة حالة نفسية سائدة في المجتمع الإسرائيلي يكشف عنها نزوع الإعلام إلى التوحش متجاوزًا عنصرية “إعلام الساطور” وخطابه التحريضي على القتل الممنهج.