لماذا يجب على الصحفيين الفلسطينيين الانخراط في المعركة القانونية العالمية من أجل العدالة؟

إحسان عادل – رئيس منظمة القانون من أجل فلسطين

لعقود من الزمان، كان النضال الفلسطيني من أجل العدالة معركة تخلّلها صعوبات ساحقة. لقد واجه الفلسطينيون الاحتلال والتشريد والفصل العنصري، وأخيرا الإبادة الجماعية، دون تغير جوهري يبدو في الأفق. ومع ذلك، فإن إحدى الأدوات التي ما فتئت تزداد قوة في الترسانة الفلسطينية – وهي النظام القانوني الدولي – غالبًا ما لا تحظى بتغطية إعلامية كافية من قبل وسائل الإعلام الفلسطينية، وكذا العربية.

إن الجهود القانونية المتعلقة بفلسطين تمر الآن بمنعطف تاريخي، وتحدث تحولات كبرى، يبدو معها ما كان يعتبر مستحيلاً وغير قابل للتصور في المعركة القانونية الدولية الخاصة بفلسطين حقيقةً اليوم، وبينما يقدم هذا التحول فرصاً وتحديات جديدة لا يمكن للفلسطينيين تجاهلها، كان الصحفيون الفلسطينيون، رواة القصص في الخطوط الأمامية للسرد الوطني الفلسطيني، غائبين بشكل ملحوظ عن تغطية تلك التحولات والمعارك القانونية الرئيسية التي يتم خوضها على الساحة العالمية. والسؤال هو: لماذا؟ والأهم من ذلك، لماذا ينبغي تغيير هذا؟

جذور الشكوك
ليس من الصعب أن نفهم لماذا يكنّ الفلسطينيون، بمن فيهم الصحفيون، شكوكًا عميقة تجاه القانون الدولي، فقد استمر القادة الإسرائيليون في التمتع بالحماية من المساءلة على جرائمهم ضد الفلسطينيين، مما عزز الاعتقاد بأن النظام الدولي متحيز وغير فعال، وهو اعتقاد محق إلى حد كبير.

لكن هذه النظرة تتجاهل الأهمية الاستراتيجية للتعامل مع القانون الدولي، خاصة فيما يتعلق بالانتصارات التدريجية والمهمة التي يجري تحقيقها، والتأثير طويل الأمد الذي يمكن أن تحدثه هذه الانتصارات على سعي الفلسطينيين ومناصريهم لتحقيق العدالة، وتاريخية اللحظات الحالية في هذا النضال القانوني، كما سوف أبيّن من خلال هذه المقالة.

أدوات الاستنزاف
من المهم أن ندرك أن حركات التحرر الوطني، بما في ذلك الحركة الفلسطينية، تحقق التقدم من خلال التراكم وليس الضربة القاضية. إن فكرة أن أي أداة – سواء كانت دبلوماسية أو قانونية أو عسكرية – يمكن أن تنهي معاناة الشعب الفلسطيني -بمفردها- هي فكرة تبدو حالمة، كما أثبت الواقع. فكل أداة، عندما تستخدم بشكل جماعي ومستمر، تساهم في استراتيجية أكبر.

فعلى سبيل المثال، أحسنت دعوات وفعاليات مقاطعة إسرائيل في استخدام القانون الدولي لتعزيز عزلة إسرائيل، بالاستناد على قرارات المحاكم الدولية، وحققت نجاحات ملحوظة. وحين جرت محاولات تجريم دعوات المقاطعة واعتقال نشطائها في فرنسا، انتصر القانون الدولي لها من خلال قرار المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، الذي صنّف تلك الدعوات كحق في التعبير عن الرأي، وهو قرار ملزم لكل الدول الأوروبية.

تدلل هذه النجاحات على أهمية التفاعل الإيجابي بين الأدوات المختلفة لتحقيق العدالة، ويتعين علينا الاستمرار في ذلك وتعزيزه، بما في ذلك من خلال المعارك القانونية الدولية.

المعركة القانونية الحالية: نقطة تحول تاريخي
في الآونة الأخيرة، أصبحت المحكمة الجنائية الدولية ساحة معركة من أجل العدالة، تشارك فيها العديد من الدول والمنظمات والأكاديميين حول العالم. حيث قدمت منظمتنا، القانون من أجل فلسطين، إلى جانب العديد من الدول والمنظمات الأخرى، مذكرات للمحكمة الجنائية الدولية، تتحدى محاولة المملكة المتحدة منع المحكمة من إصدار أوامر اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين، بما في ذلك رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف جالانت.

إن تدخل المملكة المتحدة السافر، بحجة أن اتفاقيات أوسلو تمنع المحكمة الجنائية الدولية من ممارسة اختصاصها على المواطنين الإسرائيليين، يمثل محاولة مباشرة لعرقلة العدالة. ردًا على ذلك، يعمل الخبراء القانونيون الفلسطينيون والدوليون بلا كلل لمواجهة هذه الحجج وضمان قدرة المحكمة الجنائية الدولية على المضي قدمًا في تحقيقاتها.

إن صدور مذكرات الاعتقال المذكورة، يعني عمليا أن 124 محكمة جنائية في العالم –وهو عدد الدول الأطراف في ميثاق روما الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية- قد أصدرت أوامر اعتقال بحق نتنياهو وغالانت، لأن كل هذه الدول سوف تكون ملزمة باعتقالهما. إن هذا يفسر لنا سبب كل هذه العراقيل التي تم وضعها في طريق إصدار هذه المذكرات.

إنها معركة قانونية ذات أهمية هائلة، وهي لا تتعلق بقضية واحدة فحسب؛ بل إنها جزء مهم من النضال الأوسع من أجل المساءلة والعدالة. وعلى الرغم من أنها ليست سوى واحدة من عدة جبهات قانونية حاسمة، إلا أن تفاصيل هذه المعركة تبقى غائبة إلى حد كبير عن وسائل الإعلام الفلسطينية والعربية على حدا سواء.

وهناك قضية حيوية أخرى تتمثل في الرأي الاستشاري الأخير الذي أصدرته محكمة العدل الدولية في 19 يوليو/تموز 2024، والذي يعتبر، من الناحية القانونية والفنية، من أهم ما صدر عن المحكمة من فتاوى على مدار تاريخها. لقد أعلن رأي المحكمة أن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين غير قانوني، ودحض حجة إسرائيل الثابتة بأن وجودها مبرَّر بمخاوف أمنية، كما أكد بأنّ على إسرائيل أن تنسحب من فلسطين دون انتظار نتائج المفاوضات، وأن على جميع الدول مسؤولية خاصة لاتخاذ الإجراءات اللازمة لإنهاء الاحتلال. هذه المسؤولية يمكن أن تشمل حظر السلاح، وفرض العقوبات.

وفي حين أن هذا الحكم وحده لن يجلب التحرير، فإنه يوفر حجة قانونية وأخلاقية قوية تدعم النضال الفلسطيني وتساعد المنظمات الحقوقية الداعمة لفلسطين في كل مكان في العالم لكي تضغط على حكوماتها، بما في ذلك من خلال الوسائل القضائية المحلية في تلك الدول، لدفعها للقيام بمسؤوليتها لإنهاء الاحتلال والتصرف وفقًا للقانون الدولي.

تأثير القانون الدولي في السياقات التي أمامنا اليوم
على الرغم من أن القانون الدولي يتأثر بشكل عميق بالسياسة، إلا أنه يبقى ديناميكيا ويتطور باستمرار، بما في ذلك من خلال التغيرات العالمية والتحالفات. لقد أفشلت التحالفات الجيوسياسية عامي 1947-1948 المحاولات المبكرة لتحدي تقسيم فلسطين من خلال محكمة العدل الدولية. ومع ذلك، وفي ظل ظهور دول جديدة نتيجةُ لحركة التحرر من الاستعمار في الستينات والسبعينات، تحسنت قدرتنا على السعي إلى العدالة من خلال الآليات القانونية الدولية بشكل كبير، بحيث أن التحولات التي نراها اليوم في القانون الدولي، بما في ذلك مجرد صدور قرار من محكمة العدل الدولية بخصوص فلسطين، كانت تعتبر أحلامًا بعيدة المنال.

لماذا يجب على الصحفيين الفلسطينيين المشاركة
إن المعركة القانونية من أجل فلسطين تمر بلحظات حاسمة، وتتسارع فيها التطورات بشكل غير مسبوق، وتتعاظم معها التحديات والهجمات المضادة. وفيما يحدث ذلك، يتجلى دور الصحفيين، كأحد أهم أدوات التأثير في تحديد سلم الأولويات للاهتمامات الوطنية وتوجيه النقاش، من أجل فهم أبعاد هذه المعركة وتفاصيلها، ومن ثم تغطيتها والتفاعل معها من أجل إحداث التأثير المنشود. ودون هذا التفاعل، فإن دور الصحفيين، ومن خلفهم الدور الوطني العام، في صناعة وتطوير هذه اللحظات القانونية الفارقة، يبقى محدودا أو غير موجود، وهو ما يمثل خسارة فعلية للقضية.

ومن خلال هذا الدور، إلى جانب دورهم الطبيعي في إنتاج التوثيقات والتقارير الخاصة بهم، مع مواءمتها لتكون قابلة للاستخدام في التحقيقات والمحاكم الدولية، فإن تأثير الصحفيين يمتد لما وراء المساءلة، ليشمل تشكيل الرواية الداخلية حول القانون الدولي وأهميته للنضال الفلسطيني، عبر تقديم وجهة نظر فلسطينية، بدلاً من السماح بسرد القصة من الخارج، بما في ذلك عبر تقديم النقد الواعي والبنّاء لتطوير هذا النضال.

كما تلعب التغطية الإعلامية لهذه القضايا دوراً هاماً في بناء الوعي الجماعي للشعب الفلسطيني والشعوب العربية الداعمة له، حول السبل المتاحة للسعي إلى العدالة، وتمكنهم من فهم طريق العدالة الطويل والمحفوف بالتحديات، والإجراءات الملموسة التي يتم اتخاذها على الساحة العالمية لمحاسبة إسرائيل.

إن توثيق وتغطية المعارك القانونية الدولية اليوم لا يساهم فقط في نشر الوعي والأمل باعتبار أن نضال الفلسطينيين ليس معزولا، وأنه جزء من التضامن العالمي، بل إنه يحشد أيضًا الدعم الذي يساعد في عمل منظمات حقوق الإنسان العاملة على الأرض، والتي بدورها تواجه تحديات وتهديدات هائلة

وعمليا، كلما زاد الاهتمام بهذه القضايا، زاد الضغط على الآليات الدولية كالمحكمة الجنائية الدولية والمجتمع الدولي للتحرك. إن الصمت بحجة عدم الإيمان بهذه الأدوات لا يؤدي إلا إلى إدامة الوضع الراهن بدلا من تحديه.

إن توثيق وتغطية المعارك القانونية الدولية اليوم لا يساهم فقط في نشر الوعي والأمل باعتبار أن نضال الفلسطينيين ليس معزولا، وأنه جزء من التضامن العالمي، بل إنه يحشد أيضًا الدعم الذي يساعد في عمل منظمات حقوق الإنسان العاملة على الأرض، والتي بدورها تواجه تحديات وتهديدات هائلة، بما في ذلك التصنيفات كمنظمات إرهابية والهجمات المنظمة ضدها، إلى جانب المعركة القانونية التي يواجهون فيها ترسانة قانونية مضادة ضخمة. إن توثيق عملهم الحقوقي والمعارك القانونية التي يشاركون فيها والهجمات التي تتم ضدهم يساعد في بناء الدعم الدولي وتعزيز موقفهم واستمرار نضالهم. كما انه يساعد في تحشيد الرأي العام لمساندتهم وتقديم الدعم لهم.

أخيرا، يساعد اهتمام الصحفيين بالتوثيق في إنشاء سجلات تاريخية للقضية الفلسطينية. إن الصحفيين هم مؤرخو عصرنا، من خلال توثيق هذه المعارك القانونية، فإنهم يخلقون سجلات لا تقدر بثمن للأجيال القادمة حول الجهود الهائلة الخاصة بهذا المسار، وستظهر هذه السجلات أن الفلسطينيين لم يتركوا بابا من أجل العدالة إلا وطرقوه، وأن هناك من العلماء والنشطاء والمحامين الدوليين حول العالم، عربا وغير عرب، من يقومون بدور خالد في هذه المعركة وهم يدفعون الثمن، وسوف تظهر أيضا حجم التآمر والتحدي والتشويه، بما يفيد ويلهم حتى التجارب الأخرى في العالم.

ما الذي ينبغي فعله؟
لضمان سماع الأصوات الفلسطينية والاستفادة الكاملة من المعارك القانونية الدولية في النضال الفلسطيني من أجل العدالة، ينبغي على وسائل الإعلام الفلسطينية والصحفيين الفلسطينيين اتخاذ بعض الخطوات الهامة:

أولاً، إعطاء الأولوية لتغطية التطورات القانونية الدولية المتعلقة بفلسطين، بما في ذلك تقديم تحليل متعمق يساعد الجمهور على فهم أهمية وأبعاد هذه المعارك القانونية، وإجراء المقابلات النشطة مع الخبراء المحليين والدوليين لتقديم رؤى أعمق، وليس الاكتفاء بخبر عابر حين يصدر قرار ما عن محكمة دولية ما، بل تغطية الجهود المتصلة والرامية إلى تحدي هذا الاحتلال، ومواكبة المعركة القانونية، والتفاعل معها وتغذيتها، بما في ذلك حتى نقديا، وبما يحقق تقديم الروايات الدقيقة والمقنعة للجمهور، ويساعد في مكافحة المعلومات المضللة أو المبالغ فيها.
ثانيًا، تقديم تغطية أكثر شمولاً لإعلام الجمهور وإشراكه، بما في ذلك ما يتصل بجهود ومنشورات المنظمات الحقوقية ووضعها في سياقها، وتوضيح آثارها، وتحديد الخطوات التالية في الجهود القانونية. على سبيل المثال، قامت العديد من المنظمات الفلسطينية خلال الأشهر الماضية برفع قضايا هامة في دول أوروبية تتعلق بمحاسبة المسؤولين الإسرائيليين، ونحتاج أن نرى الإعلام الفلسطيني يتناول هذه القضايا ويتابعها.
ثالثًا، تضافر الجهود بين إدارات المؤسسات الإعلامية وكليات الإعلام والمؤسسات الحقوقية لبناء قدرات الصحفيين والمحترفين الإعلاميين في مجال القانون الدولي، بما في ذلك عبر تنظيم التدريبات وورش العمل بما يساعد الصحفيين على المواكبة والمناصرة.
رابعا وأخيرا، من الضروري تشجيع ثقافة المثابرة والتفكير طويل الأجل بين الجمهور الفلسطيني. ومن خلال تسليط الضوء على النجاحات التدريجية للمعارك القانونية الدولية ودورها في النضال الأوسع من أجل التحرير، يمكن للصحفيين المساعدة في الحفاظ على الاهتمام العام والدعم.

ختاما: نداء موجه للصحفيين والمؤسسات الصحفية الفلسطينية

أيها الصحفيون الفلسطينيون، إن دوركم حاسم في هذا النضال المستمر. إن الانخراط في المعارك القانونية الدولية، وتسليط الضوء على جهود المنظمات المدافعة عن العدالة، وتوثيق التفاعل المعقد بين القانون الدولي والسياسة، كلها مهام أساسية من أجل تفعيل أدوات القانون الدولي وجعله يعمل كأداة للتحرير بدلاً من القمع. ولكي تنجح هذه الجهود، فإنها تحتاج أيضا إلى اهتمام ودعم ونقد وسائل الإعلام الفلسطينية.

إنني أحث زملائي الصحفيين والصحفيات، والمؤسسات الصحفية والإعلامية المختلفة، على إعادة النظر في محدودية تغطية المعركة القانونية الدولية المتعلقة بفلسطين. إن الطريق إلى التحرير طويل ومحفوف بالعقبات، ولكن كل قصة تُروى، وكل معلومة تُشارك، وكل حجة تُقدم تضيف إلى الجهد التراكمي المطلوب لتحقيق العدالة، والصحفيون الفلسطينيون جزء أساسي في كل ذلك.

مواضيع ذات صلة: