تشهد “إسرائيل” استقطاباً متزايداً بين السياسيين اليمينيين والقادة العسكريين والأمنيين، حيث يسهم هذا الاستقطاب في تراجع ثقة الجمهور الإسرائيلي بالمؤسسة العسكرية (الجيش)، كما تظهر بعض استطلاعات الرأي، والسبب في ذلك يعود إلى الحرب العبثية في غزة التي أسهمت في زيادة حدة هذا الاستقطاب ووصوله إلى مستوى غير مسبوق من التراشق العلني بين الطرفين.
كان أحدث فصول هذا الاستقطاب خلال المؤتمر الصحفي لوزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت في 15 أيار 2024 والذي جاهر فيه بمعارضة توجهات بنيامين نتنياهو بشأن غزة ما بعد الحرب، قائلاً إنه سيعارض أي حكم عسكري إسرائيلي للقطاع، لأنه سيكون دموياً ومكلفاً وسيستمر أعواماً، وهو ما قابله ردود غاضبة من كل من رئيس الوزراء ووزراء اليمين مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش.
وفي دافع آخر للاستقطاب المدني-العسكري، يبرز وجود تقليد يدخل بموجبه قادة الجيش معترك السياسة عقب تقاعدهم، وينافسون للوصول إلى رئاسة الوزراء في دولة الاحتلال، والذي يوصف عادةً بـ”هبوط كبار الضباط بالمظلات إلى السياسة بعد التقاعد”.
وفي هذا نجد أن 19 من رؤساء أركان الجيش الـ23 دخلوا معترك السياسة، وكان 3 من رؤساء وزراء دولة الاحتلال الـ13 وهم إسحاق رابين، وإيهود باراك، وأرييل شارون، جنرالات متقاعدين، وكان “رابين وباراك” رئيسي أركان للجيش.
وهذا التقليد يجعل القادة الحاليين والمتقاعدين خصوماً محتملين لسواهم من السياسيين غير العسكريين، وخصوصاً القوميين الشعبويين، وهو ما يدفع إلى تبادل النقد والتحشيد المبكر للتنافس السياسي المستقبلي، مما يسهم في نزع الشرعية عن قيادات الجيش وتصويرهم كنخبة يسارية منعزلة عن المجتمع واهتماماته كما اعتاد اليمين على وصفهم.
وهنا وجد معهد الديمقراطية الإسرائيلي أنه خلال عقد من الزمن، انخفضت الثقة في جميع مؤسسات الدولة الثماني التي يقوم باستطلاعها سنوياً بين الجمهور الإسرائيلي، وهي (الجيش، والرئاسة، والمحكمة العليا، والشرطة، والحكومة، ووسائل الإعلام، والكنيست، والحكومة والأحزاب السياسية)، حيث انخفضت من 61% عام 2012 إلى 33% عام 2022.
وأظهر استطلاع للمعهد في تشرين الأول 2021 أن نحو 78% من الجمهور يثقون بالجيش الإسرائيلي، وهو أدنى رقم منذ عام 2008. وعلى الرغم من أن الجيش لا يزال مؤسسة الدولة الأكثر ثقة، فإن الهجمات الشعبوية المستمرة على جميع مؤسسات الدولة تهدد بمزيد من تآكل مكانته في المجتمع الإسرائيلي.
حيث أتى هجوم السابع من أكتوبر 2023 وفشل الجيش في التنبؤ به ومواجهته كضربة غير مسبوقة فاقمت من أزمة ثقة الجمهور الإسرائيلي بجيشه، وعزز من هذا الأمر مستوى النقد والاتهامات التي طالت قادته من قبل وزراء اليمين في حكومة نتنياهو.
ويشير هذه المستوى غير المسبوق من الاستقطاب إلى تباين إستراتيجي وتكتيكي بشأن الحرب في قطاع غزة، على صعيد تقرير التوجه بشأن اليوم التالي للحرب.
لكن لو جرت انتخابات اليوم فإن حزب الليكود سيحصل على 17 فقط من مقاعد الكنيست الإسرائيلي الـ120″، مقارنة بـ19 مقعداً في استطلاع نشرته “معاريف” الأسبوع الماضي. وبحسب الاستطلاع، يتقدم حزب “الوحدة الوطنية” برئاسة الوزير بحكومة الحرب بيني غانتس، بعدد 32 مقعداً، مقابل 31 باستطلاع الأسبوع الماضي، مع ثبات حظوظ حزب “هناك مستقبل” برئاسة زعيم المعارضة يائير لابيد عند 13 مقعداً.
ما يعني أن “إسرائيل” تعيش قلقاً وجودياً في ظل الظروف التي تعيشها على المستوى الداخلي من جهة، وعلى مستوى الحرب في قطاع غزة وجبهات الإسناد (في لبنان تحديداً)، من جهة ثانية، وهذا يطرح تساؤلات بشأن مستقبل “إسرائيل” واستمراريتها، وبشأن احتمالات تفككها وقدرتها على مواجهة الانقسامات الداخلية، والتحديات الخارجية، والتي يمكن إدراجها، كلها، ضمن مصطلح “القلق الوجودي”.
فبعد 8 أشهر من الحرب، ها هي “إسرائيل تتفكك، بل تتجه “إسرائيل إلى كارثة”، إذ إنّ المستقبل يضمن للإسرائيليين انهياراً اقتصادياً وعزلةً عالميةً، وفقدان الدعم من الدول الغربية، وحرباً أبديةً سيخوضونها بالأظافر. وقد نشر موقع “مداد” (موقع إلكتروني لجمع معطيات عن السياسة والمجتمع في “إسرائيل” وتحليلها) معطيات أفادت بوجود انخفاض كبير في مستوى التفاؤل لدى الجمهور الإسرائيلي، مقارنةً بالبيانات التي تمّ جمعها في كانون الثاني الماضي. وانخفضت نسبة “المتفائلين جداً” بمستقبل “إسرائيل” من 48% إلى 37%، بينما ارتفع معدل التشاؤم من 21% إلى 30%.
هذه المعطيات دفعت خبراء إلى تحليلها، مؤكدين أن “الجمهور” الإسرائيلي يفقد الثقة بقدرة “إسرائيل” على كسب الحرب. وبما أنه اعتُقد، ولا يزال يُعتقد، أن هذه حرب مهمة، بل حرب وجودية، فإن فقدان الثقة بالقدرة على الانتصار ينعكس بالضرورة على توقع المستقبل.
إذاً ينتظر “إسرائيل” “مستقبل حزين”، إذ ثمة احتمال كبير ألا تبقى كدولة يهودية سيادية في العقود المقبلة، بحيث اتضحت صورة الفشل المطلق في منظومات نظام الحكم والإدارة والتشغيل، مع التعديلات القضائية و”طوفان الأقصى” وما تبعه. وهذا الفشل ليس إخفاقاً موضعياً، أو مقتصراً على مدماك واحد في المؤسسة الحكومية في إسرائيل، بل إنّه يمثّل انهياراً في أداء المنظومة كلها.
ولعل الخطوط العريضة لعملية التفكّك التي تمرّ فيها “إسرائيل”، تبرز في انقسامها إلى معسكرات متباينة، كلّ منها يتمسك بمفاهيم ومواقف معينة، وتتقاتل فيما بينها، ليفرض أحدها قيمه ومفهومه على الكيان كله. في حين أن الفجوات بين المعسكرات “أكبر من أن يكون من الممكن جسرها”. وعليه، من المتوقع أن يتجدد الصراع الداخلي الممزِّق بكامل قوته مع انتهاء الحرب، بحيث يُمكن أن يؤدي كل هذا إلى عملية انحلال للمجتمع في “إسرائيل”، الأمر الذي سيقود حتماً إلى عملية هجرة جماعية للدولة.
محلل الشؤون السياسية
لجامعة الامة العربية
ايلي يوسف