السياق القانوني والإنساني في غزة.. حقائق ودلالات

عبد العزيز بدر عبد الله القطان*

تعد الأوضاع الحالية في غزة ورفح موضوعاً ذا أهمية قانونية وإنسانية بالغة، خاصة في ضوء الأحداث التي وقعت بعد 7 أكتوبر 2023. تشير الأدلة المتاحة إلى قيام إسرائيل بأعمال قد تشكل جريمة إبادة جماعية بموجب المادة الثانية من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948.

ويتناول هذا المقال تحليلاً قانونياً مستنداً إلى إطار الاتفاقية والسوابق القضائية، للتحقق مما إذا كانت تصرفات الكيان الصهيوني في غزة تتوافق مع التعريف القانوني للإبادة الجماعية، كما يركز التحليل على الأفعال التي ارتكبها كيان الاحتلال الصهيوني، بما في ذلك القتل العشوائي للمدنيين، وإلحاق أضرار جسدية وعقلية جسيمة، وإخضاع الفلسطينيين في غزة لظروف معيشية قاسية تهدف إلى تدميرهم كلياً أو جزئياً.

بالتالي، تتضمن المادة الثانية من اتفاقية الإبادة الجماعية خمسة أفعال رئيسية تُرتكب بقصد تدمير جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية كلياً أو جزئياً كما أشرنا في المقالات السابقة، وهي: قتل أعضاء من الجماعة، إلحاق أذى جسدي أو عقلي جسيم بأفراد الجماعة، إخضاع الجماعة لظروف معيشية يُقصد بها تدميرها فعلياً، وفرض تدابير تستهدف منع الإنجاب داخل الجماعة، ونقل أطفال الجماعة قسراً إلى جماعة أخرى، وفي سياق غزة، تشمل الأمثلة الملموسة على هذه الأفعال القتل العشوائي للمدنيين، وتدمير البنية التحتية الحيوية التي تتسبب في تدهور الأوضاع الصحية والمعيشية، والتهجير القسري للسكان، كما تعكس هذه الأعمال نمطاً ممنهجاً يتوافق مع عناصر جريمة الإبادة الجماعية، مما يستدعي تحقيقاً دولياً شاملاً وتدابير قانونية لحماية حقوق الإنسان وضمان المساءلة.

كما تلزم المادة الرابعة من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية الدول بمعاقبة الأفراد الذين يرتكبون “أياً من الأفعال الأخرى المنصوص عليها في المادة الثالثة”، سواء كانوا حكاماً مسؤولين دستورياً، أو مسؤولين عموميين، أو أفراداً عاديين، هذا يشمل التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية، مما يعكس التزام الدول باتخاذ تدابير فعالة لمنع مثل هذه الجرائم والمعاقبة عليها، كما يتضمن هذا الالتزام ضرورة وضع قوانين داخلية تجرم التحريض، وتطبيق هذه القوانين بفعالية لمنع التحريض قبل أن يتحول إلى أفعال إبادة جماعية فعلية، بالإضافة إلى ذلك، يُدرج شرط منع التحريض في المادة الأولى من الاتفاقية كجزء من الالتزام الأوسع بمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، مما يؤكد أن الدول ليست ملزمة فقط بمعاقبة مرتكبي الجرائم الفعلية، بل أيضًا باتخاذ خطوات استباقية لمنع التحريض الذي قد يؤدي إلى مثل هذه الجرائم، وتعكس هذه البنود فهم المجتمع الدولي لأهمية التحرك المبكر والتدخل السريع لمنع تصاعد العنف وتحوله إلى جرائم جماعية مدمرة، ويعد الالتزام بمعاقبة التحريض العلني والمباشر جزءاً لا يتجزأ من الإطار القانوني الدولي الذي يهدف إلى حماية البشرية من أفظع الجرائم وضمان عدم إفلات مرتكبيها من العقاب.

بالتالي، إن الخلاصة القانونية تتمثل في أن منع ومعاقبة التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية هو واجب أساسي للدول الأعضاء في اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، هذا الالتزام يشمل ضرورة سن وتطبيق قوانين داخلية تجرم التحريض واتخاذ إجراءات وقائية لضمان عدم تصاعده إلى جرائم فعلية، كما تعكس هذه النصوص القانونية أهمية التدخل المبكر والاستباقي في منع الجرائم الجماعية، مؤكدة على دور الدول في حماية الإنسانية ومنع إفلات المحرضين والمجرمين من العقاب.

وخلال المفاوضات المتعلقة بالتحريض على الإبادة الجماعية، أشارت عدة دول أطراف إلى الهدف الأساسي المتمثل في منع انتشار أفكار الإبادة الجماعية، فقد شددت فنزويلا على ضرورة معاقبة التحريض على ارتكاب الإبادة الجماعية، نظراً لأن هذه الجريمة غالباً ما تكون نتيجة للكراهية التي يغرسها المحرضون في الجماهير، وقد أكدت على هذا في ضوء غرض الاتفاقية الأساسي المتمثل في منع الإبادة الجماعية، كما أشارت يوغوسلافيا إلى أن تجريم ومنع التحريض هو “الخطوة الأولى” في منع الإبادة الجماعية، حيث أن هذه الجريمة تنبع من “إعداد وتعبئة الجماهير عن طريق النظريات المنشورة من خلال الدعاية، من قبل الدوائر التي مولت تلك الدعاية”.

بدورها، تصورت بولندا أن حظر التحريض يجب أن يؤدي إلى تنظيم الصحافة، مؤكدة أن “الحرية لا ينبغي أن تكون واسعة إلى الحد الذي يسمح للصحافة بالتحريض على الإبادة الجماعية”، بالتالي تثبت “الأعمال التحضيرية” أن الدول الأطراف كانت تعتزم من حظر التحريض أن يشمل أيضاً تنظيم الجهات الفاعلة الخاصة من غير الدول.

بالإضافة إلى ذلك، إن الالتزام بمنع ومعاقبة التحريض على الإبادة الجماعية هو جزء أساسي من جهود المجتمع الدولي لمنع وقوع مثل هذه الجرائم الفظيعة، وتأتي هذه الإجراءات في سياق الاعتراف بأن التحريض يلعب دوراً حاسماً في تأجيج الكراهية والعنف، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى ارتكاب الإبادة الجماعية، لذلك، يتطلب هذا الالتزام من الدول اتخاذ خطوات فعالة في تشريعاتها الوطنية لمنع التحريض ومعاقبته، كما يشمل ذلك تنظيم المحتوى الإعلامي والأنشطة الدعائية التي قد تشجع على العنف والكراهية، وبالتالي الحيلولة دون وصول مثل هذه الأفكار إلى الجمهور العام، كما يتعين على الدول التعاون في المجال الدولي لضمان معاقبة أولئك الذين يسعون لنشر أفكار الإبادة الجماعية، سواء كانوا أفراداً أو جهات غير حكومية.

بالتالي، من الناحية القانونية يتمثل الوضع في أن منع ومعاقبة التحريض على الإبادة الجماعية يمثلان حجر الزاوية في الجهود الدولية لمنع وقوع هذه الجريمة البشعة، كما يعكس هذا الالتزام فهماً عميقاً لدور التحريض في تمهيد الطريق لارتكاب الإبادة الجماعية، ويتطلب من الدول ليس فقط سن وتطبيق قوانين صارمة تجرم التحريض، بل أيضاً تنظيم وسائل الإعلام والجهات الفاعلة غير الحكومية التي قد تساهم في نشر الكراهية والعنف، وتبرز هذه الجهود التزام المجتمع الدولي بحماية الإنسانية وضمان عدم إفلات المحرضين من العقاب.

كما يترتب على الدول مسؤولية سن لوائح تمنع الجهات الفاعلة غير الحكومية من ارتكاب التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية، بالإضافة إلى ذلك، وبالنظر إلى أن هدف المادة الثالثة من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية هو الحد بشكل فعال من انتشار الدعاية للإبادة الجماعية، فإن هذا البند يتطلب أيضاً التنفيذ الفعال لتلك اللوائح. يشكل فشل دولة ما في سن أو إنفاذ تدابير لوقف انتشار أفكار الإبادة الجماعية انتهاكاً للحظر المفروض على التحريض على الإبادة الجماعية.

بالتالي، إن الالتزام القانوني بمنع ومعاقبة التحريض على الإبادة الجماعية يستند إلى فهم عميق لدور التحريض في تمهيد الطريق لارتكاب هذه الجرائم الفظيعة، حيث يشمل هذا الالتزام ليس فقط الحكومات، بل يمتد ليشمل الجهات الفاعلة غير الحكومية، مثل وسائل الإعلام والمنظمات والأفراد الذين قد ينشرون أفكاراً تحرض على الكراهية والعنف، كل هذا يتطلب من الدول إنشاء إطار قانوني فعال يتضمن قوانين صارمة ضد التحريض وآليات تنفيذ فعالة لضمان الامتثال لهذه القوانين.

أما بالنسبة للتنفيذ الفعال لتلك اللوائح يشمل إجراءات عملية مثل الرقابة على وسائل الإعلام وتنظيم الأنشطة الدعائية والتعاون الدولي لملاحقة ومعاقبة المحرضين على الإبادة الجماعية، إذ يجب على الدول أيضاً توفير موارد كافية لتدريب الجهات المكلفة بإنفاذ القانون والتأكد من أن النظام القضائي قادر على التعامل بفعالية مع قضايا التحريض، بالإضافة إلى ذلك، ينبغي تعزيز التوعية العامة بخطورة التحريض على الإبادة الجماعية وأهمية منعه، مما يسهم في بناء ثقافة مجتمعية ترفض الكراهية والعنف.

هنا، إن الخلاصة القانونية تتمثل في أن منع ومعاقبة التحريض على الإبادة الجماعية هو واجب أساسي ومتكامل يتطلب من الدول اتخاذ إجراءات فعالة تشمل سن قوانين صارمة وتنفيذها بجدية ضد جميع الجهات الفاعلة التي قد تساهم في نشر أفكار الكراهية والعنف، بالتالي إن الفشل في القيام بذلك ليس فقط انتهاكاً لالتزامات الدولة بموجب الاتفاقية، بل يشكل خطراً حقيقياً على الأمن والسلم الدوليين، لذلك، يجب أن يكون هناك التزام دولي قوي ومتضافر لضمان منع التحريض على الإبادة الجماعية ومعاقبة مرتكبيه بفعالية.

وتُظهر الأدلة المتعلقة بالكيان الصهيوني والإبادة الجماعية في غزة، وفقاً للمادة الثانية من اتفاقية الإبادة الجماعية، حقائق مقلقة، وذلك باستخدام إطار الاتفاقية والسوابق القضائية ذات الصلة، حيث يتم تحليل تصرفات الكيان الصهيوني بعد 7 أكتوبر 2023 لتحديد ما إذا كانت تشكل جريمة إبادة جماعية، كما تشير الحقائق إلى أن كيان الاحتلال المجرم قد قتل مدنيين فلسطينيين في غزة بشكل عشوائي وجماعي، وتسبب في أضرار جسدية وعقلية جسيمة لهم، وأخضعهم لظروف معيشية تهدف إلى تدميرهم جسدياً كلياً أو جزئياً، كما تشمل هذه الظروف الحرمان من الغذاء والماء والخدمات الطبية، التهجير القسري، وتدمير البنية التحتية المدنية ونظام التعليم ونظام الرعاية الصحية ومواقع التراث الثقافي والديني.

وتأتي هذه الأعمال مع تصريحات وأفعال من قبل الحكومة “الإسرائيلية” تُظهر نية واضحة لتدمير الفلسطينيين في غزة كلياً أو جزئياً، فقد أدلى كبار المسؤولين الحكوميين “الإسرائيليين”، الذين يتمتعون بسلطة اتخاذ القرار، بتصريحات تعبر عن نية التسبب في دمار هائل للفلسطينيين واستخدموا خطاباً مهيناً يجردهم من إنسانيتهم، بالتالي، يمكن أيضاً استنتاج نية الإبادة الجماعية من سلوك الجيش الصهيوني في قطاع غزة، حيث تتماشى تصرفاتهم مع هدف إحداث دمار واسع النطاق للفلسطينيين.

بالإضافة إلى ذلك، يشمل إطار اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948 التعريف القانوني للإبادة الجماعية والذي يتضمن أعمالًا معينة تُرتكب بقصد تدمير جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية كلياً أو جزئياً، وذلك بناءً على هذه المعايير، حيث يمكن فحص سلوك الكيان الصهيوني في غزة بدقة أكبر، أولاً، قتل المدنيين العشوائي والجماعي يشير إلى نية واضحة لإلحاق ضرر جماعي بالشعب الفلسطيني، وثانياً، التسبب في أضرار جسدية وعقلية جسيمة يتماشى مع التعريف القانوني للإبادة الجماعية الذي يشمل إلحاق أذى خطير بأفراد المجموعة.

بالتالي، إن تدمير البنية التحتية المدنية، ونظام التعليم، ونظام الرعاية الصحية، ومواقع التراث الثقافي والديني، يشير إلى محاولة متعمدة لتدمير الأسس التي يقوم عليها المجتمع الفلسطيني في غزة، هذا النوع من التدمير الهيكلي لا يعوق فقط الحياة اليومية للفلسطينيين بل يهدف إلى تدمير مقومات بقاء هذا الشعب على المدى الطويل، خاصة وأن الحرمان من الغذاء والماء والخدمات الطبية هو شكل من أشكال العقاب الجماعي الذي يمكن أن يؤدي إلى تدمير جماعة بأكملها ببطء.

ما يعني أن التصريحات العلنية من المسؤولين الحكوميين الإسرائيليين والتي تعبر عن رغبة في إلحاق أذى واسع بالفلسطينيين، واستخدام خطاب يحط من إنسانيتهم، تدعم كذلك الاستنتاج بأن هناك نية للإبادة الجماعية، حيث أن مثل هذه التصريحات تُظهر نية متعمدة لتدمير الجماعة ليس فقط من خلال الأعمال العنيفة المباشرة ولكن أيضاً من خلال خلق بيئة من الكراهية والعداء تجعل تدمير الجماعة أمرًا مقبولاً أو مرغوباً فيه.

وفي تحليل قانوني لهذه الأفعال والتصريحات الصهيونية بعد 7 أكتوبر 2023 يُظهر وجود دلائل قوية على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في غزة، إن الأعمال التي تشمل القتل العشوائي، إلحاق الأذى الجسدي والعقلي، تدمير البنية التحتية المدنية، والحرمان من الأساسيات الضرورية للحياة، مجتمعة مع الخطاب التحريضي من قبل المسؤولين، تندرج تحت الأفعال التي تهدف إلى تدمير جماعة قومية كلياً أو جزئياً وفقاً لاتفاقية الإبادة الجماعية. لذلك، من الضروري أن يتم التحقيق في هذه الادعاءات بجدية، وأن يتم اتخاذ الإجراءات اللازمة لمحاسبة المسؤولين عنها، لضمان عدم الإفلات من العقاب ولحماية حقوق الإنسان الأساسية.

في الختام، تُظهر الأحداث المستمرة في قطاع غزة ورفح انتهاكات خطيرة قد ترقى إلى جريمة الإبادة الجماعية بموجب القانون الدولي، حيث أن تحليل التصرفات الصهيونية في هذا السياق يكشف عن أنماط مقلقة تشمل القتل العشوائي للمدنيين، إلى جانب التسبب في أضرار جسدية وعقلية جسيمة، وإخضاع الشعب الفلسطيني لظروف معيشية قاسية تهدف إلى تدميرهم، بالإضافة إلى ذلك، إن هذه الأفعال تستدعي استجابة دولية عاجلة لحماية حقوق الإنسان ومنع تصاعد العنف.

ولتحقيق ذلك، يجب على المجتمع الدولي اتخاذ خطوات فورية تشمل:

– فرض عقوبات دولية على المسؤولين الإسرائيليين المتورطين في هذه الأعمال للضغط على إسرائيل لوقف الانتهاكات.
– إرسال بعثات تحقيق دولية مستقلة لتوثيق وتقييم الانتهاكات المحتملة والتأكد من جمع الأدلة بشكل شامل.
– تقديم الدعم الإنساني العاجل للفلسطينيين في غزة، بما في ذلك توفير الغذاء والماء والمستلزمات الطبية بشكل آمن ودون عوائق.
– الضغط من أجل وقف فوري لإطلاق النار وضمان حماية المدنيين وفقًا للقانون الدولي الإنساني.
– تعزيز الجهود الدبلوماسية للوصول إلى حل دائم وعادل للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي، بما يتماشى مع قرارات الأمم المتحدة والقانون الدولي.

وتعد هذه الإجراءات ضرورية لضمان حماية المدنيين في غزة ومنع وقوع المزيد من الجرائم الدولية، حيث أن تحقيق العدالة والمساءلة ليس فقط مسؤولية أخلاقية، بل هو أيضاً خطوة حاسمة نحو تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة.

*مستشار قانوني – الكويت.

مواضيع ذات صلة: