حيّان نيّوف
لا تزال قضية العدوان الإرهابي الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في العاصمة السورية دمشق تتفاعل على المستويات الدبلوماسية والسياسية و الأمنية الإقليمية والدولية، حيث شكل هذا العدوان حدثاً مفصلياً من المتوقع أن يخلّف تداعيات على الإقليم ويدشّن لمرحلة جديدة.
وبالرغم من أن “إسرائيل” لم تتبن رسمياً هذا العدوان الذي نفذه سلاح الجو الإسرائيلي من فوق الأراضي المحتلة ونتج عنه تدمير مبنى القنصلية بالكامل واستشهاد عدد من المستشارين العسكريين الإيرانيين العاملين من بينهم الجنرالين “محمد رضا زاهدي” و”محمد حاجي رحيمي” وخمسة آخرين، فإن البيانات الصادرة عن كلّ من طهران ودمشق أكدت بلا لبس بأن الجريمة نفذتها “تل أبيب” وقدمتا تفاصيل حول ذلك.
ويعود امتناع “إسرائيل” عن تبني العدوان بشكل رسمي إلى محاولة بائسة من قبلها للتهرب من المسؤولية القانونية التي حددتها اتفاقية فيينا لعام 1961 والتي تضمن حماية البعثات والمقرات الدبلوماسية للدول الموفدة لدى الدول المضيفة، كما أن “إسرائيل” تحاول التملص من حتمية الردّ الإيراني على مقتل مواطنيها بأيدي إسرائيلية.
يمكن وصف الجريمة الإسرائيلية بأنها جريمة مركّبة، فهي تشمل اعتداء على أراضي الدولة السورية وقتل مواطنين سوريين، وعدواناً على مقرات دبلوماسية للدولة الموفدة ونقصد إيران، وقتل دبلوماسيين إيرانيين، وكل تلك الجرائم يحرمها القانون الدولي بكل بنوده وتفاصيله و يعاقب عليها.
وبالرغم من أن طهران اتخذت قرار الانتقام رداً على هذا العمل الإرهابي، فإنها حافظت على غموض مقصود حوله وحول توقيته وطبيعته، والهدف من ذلك عدم منح “إسرائيل” فرصة للهروب من مأزق غزة وجبهات الإسناد بفعل الرد الإيراني، ولجأت طهران بدايةً ووفق ما يقتضيه القانون و الأعراف الدولية إلى الطرق القانونية و القنوات المؤسساتية الأممية و الدولية في مجلس الأمن و الأمم المتحدة، وحشّدت الرأي العام الدولي ضد الكيان الصهيوني الذي لا يفرق في اعتداءاته بين مدني وعسكرية، وبين مقرات دبلوماسية ومنشآت عسكرية.
التحرّك القانوني و الدبلوماسي الإيراني تسبب بحرج كبير ليس لإسرائيل فحسب ، بل أيضاً للولايات المتحدة التي عرقلت إلى جانب كلّ من فرنسا وبريطانيا صدور قرار من مجلس الأمن الدولي يدين الجريمة الإسرائيلية بعد ان تقدمت موسكو وبالتنسيق مع طهران ودمشق بمشروع بيان لهذا الهدف، وقدمت واشنطن مبررات واهية لموقفها بحجة أنها غير متأكدة من وضعية المبنى المستهدف وأنها ستشعر بالقلق فيما لو كان منشأة دبلوماسية.
فيما اعتبرت طهران أن امتناع واشنطن عن إدانة الجريمة الإسرائيلية يشكل دليلا على مسؤولية واشنطن عنها خاصة بأن طائرات F35 و الصواريخ الدقيقة التي استخدمتها “إسرائيل” بالهجوم أميركية الصنع، وكيف لواشنطن أن تخلي مسؤوليتها وهي التي سبق لها اتهام طهران بالوقوف وراء الهجوم على قاعدة البرج 22 الأميركية في الأردن فقط لأنها ظنت بأن المسيّرات التي استخدمتها المقاومة كانت صناعة إيرانية ؟! وكيف لواشنطن أن تبرر مسؤوليتها الأخلاقية و القانونية والدولية كدولة دائمة والعضوية في مجلس الأمن الدولي وهي التي سارعت لتسخير هذا المجلس لإدانة حادثة الهجوم على قنصليتها في بنغازي بليبيا في العام 2012 واعتبرت تلك الحادثة مبررا لمزيد من التدخل و العدوان على ليبيا.
وبكل الأحوال فإن جرائم الاعتداء على المقرات و البعثات الدبلوماسية ليست غريبة عن واشنطن خصوصاً وحلفائها، ولعل من المهم التذكير بالقصف الأميركي الوحشي على السفارة الصينية في بلغراد عاصمة يوغسلافيا في العام 1999 بخمسة صواريخ موجهة و دقيقة نتج عنها مقتل ثلاثة صحفيين صينيين وإصابة عشرين آخرين داخل السفارة.
إنّ كل القرائن الحالية و التاريخية تشير إلى ان واشنطن كانت على علم بالعدوان الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق، بل ربما أن الجريمة تمت بموافقتها أو بقرار منها مهما حاولت التستر و التبرير و الاختباء.
اليوم يمكن القول بأن العقل الإستراتيجي الإيراني نجح من خلال النهج الذي اتبعه في التعامل مع هذه الجريمة تحقيق انتصارات دبلوماسية و سياسية وقانونية، وبات مهيئاً للانتقال إلى مرحلة الرد الإستراتيجي العسكري و الأمني دون الالتفات إلى التبعات القانونية والأعراف الدولية التي خاض غمارها في المرحلة الأولى ليؤكد بأن حرمة المقرات الدبلوماسية لا يختلف عن حرمة أراضي الدولة، ولسان حال طهران يقول “لو أنكم قمتم بإدانة “إسرائيل” على جريمتها لربما كان لنا حديث آخر، لكن تعنتكم ومكابرتكم في دعم “إسرائيل” فضح أكاذيبكم و جعل القصاص حتماً مقضيّاً”.