الكيان الصهيوني لا يمكن أن يتسامح، إذا أراد أن يبقى، مع منطق الندية الذي راحت تفرضه غزة خصوصاً وجبهات الإسناد عموماً، ومع الفضاء الحيوي الذي مدّته مقاومة غزة وجبهات الإسناد داخل عمق الكيان.
جرى التحذير مراراً في الأشهر الفائتة من أن النفس التصعيدي لحكومة نتنياهو لم يكن بغرض التهويل فقط أو بدوافع شخصية تتصل ببقاء حكومته فحسب، وأن فرص اندلاع الحرب الشاملة تزداد ضراوةً، كما أوحى جو تقارير مراكز أبحاث أميركية وغربية شتى.
جرت الإشارة أيضاً إلى أن ذلك يتصل بأمرين متلازمين:
أ – الخطر الوجودي الذي يشعر به صنّاع القرار في الكيان الصهيوني، وذلك على الضد من احتجاجات أهالي الأسرى في غزة وداعميهم الذين يتناولون مسائل الأمن القومي الصهيوني من منظور فردي ضيّق قصير المدى، هو الإفراج عن أقربائهم في صفقة تبادل. وفي النهاية، ماذا يعني مصير 100 أسير مقابل مستقبل الكيان ذاته؟!
ب – الجرح النرجسي الذي ألمّ بالعقل الجمعي الصهيوني القائم على فكرة “التفوّق” على “الأغيار” من سائر الأمم، سواءٌ انبثق ذلك الشعور بالتفوّق من المرجعية التلمودية والمنظومة الثقافية للمستعمرين المستوطنين من متدينين وغير متدينين، أو من الإحساس بالتفوّق تقنياً وعسكرياً واستخبارياً، وبالتالي سياسياً، كتحصيل حاصل للتفوّق الأول، الذي يبيح اللجوء إلى كل وسيلة، مهما بلغت قذارتها، من أجل تجسيده هنا والآن، ليصبح الدنيوي مصداقاً للديني في أعين الأمم ودعوةً لتقديم فروض الولاء والطاعة إلى “الشعب المختار”.
كانت نقطة التحوّل هنا عملية “طوفان الأقصى” التي نعيش ذكراها السنوية الأولى اليوم، والتي “انتهكت”، من المنظور الصهيوني، الأرض العربية الفلسطينية المحتلة عام 1948، بصورةٍ مفاجئة وعنيفة، فأبادت فرقة غزة كاملة بين قتيلٍ وجريح وأسيرٍ وفار، وشر~دت 75 ألفاً من غلاف غزة حتى اليوم.
ثم جاءت فعّاليات الجبهات المساندة لتعمّق ذلك الإحساس بالخطر الوجودي ولتضع الإصبع في الجرح النرجسي، وعلى رأسها الجبهة اللبنانية التي عطّلت الحياة الطبيعية تماماً شمالي فلسطين المحتلة، والتي حوّلت نحو 100 ألف مستعمر مستوطن في شمال فلسطين إلى نازحين، وأرسلت الهدهد وصواريخها ومسيّراتها عميقاً في جسد الاحتلال.
ولا ننسى جبهة اليمن التي أغلقت البحر الأحمر، وشطبت “إيلات”/أم الرشراش اقتصادياً، وراحت ترسل صواريخَ ومسيّراتٍ إلى عمق الكيان الصهيوني وصلت إلى “تل أبيب”/ضاحية يافا.
كذلك فعلت جبهة العراق التي لم تقصّر بالإسهام في جبهة الإسناد بصواريخها ومسيّراتها، والتي أثخنت إحداها مثلاً قاعدة عسكرية للعدو في شمال الجولان قبل أيام، والجبهة السورية الحاضنة الصامدة بالرغم من كل ما تعرّضت له، والتي تظل عقدة مواصلات محور المقاومة وشرفته على خطوط التماس مع العدو الصهيوني.
هناك من يرى الجبهات المساندة حصرياً من زاوية دعم غزة ووقف العدوان الصهيوني عليها فحسب، أي من زاوية تعديل ميزان القوى في مواجهة العدو الصهيوني في إطار معركة غزة الضارية معه، وهذا مهم جداً، وهو أصلاً هدف استراتيجية إسناد غزة ومقاومتها سياسياً وعسكرياً.
لكنّ الكيان الصهيوني الذي بنى خط الدفاع الأول في استراتيجيته الأمنية على منطق زرع الدونية إزاءه والإذعان له بين العرب والمسلمين، وخط دفاعه الثاني على وهم زرعه لدى المستعمرين المستوطنين بأنهم محصّنون في بروجهم المشيّدة وداخل جدرانهم العازلة، وبأن حروبهم لإخضاع محيطهم تخاض في ميادين الأغيار لا في ميدانهم، لا يمكن أن يتسامح، إذا أراد أن يبقى، مع منطق الندية الذي راحت تفرضه غزة خصوصاً وجبهات الإسناد عموماً، ومع الفضاء الحيوي الذي مدّته مقاومة غزة وجبهات الإسناد داخل عمق الكيان، براً وبحراً وجواً، وشمالاً وجنوباً وغرباً، إذ إن ذلك يعني أن المقاومة تستطيع أن تهدد أمنه كما وأنى تشاء، وذلك لا يكسر معادلة التفوّق المزعوم فحسب، بل يضع الكيان المؤقت أمام خطرٍ وجوديٍ يهدّده بالانفراط.
من دون إعطاء هذه المسألة حقها، حيث يملي البعد المتصل بالوعي الجمعي الاستراتيجية العسكرية، باتجاه اجتثاث مصادر الخطر والاختلال في موازين القوى من منظوره، وإلحاح نقل المعركة إلى أرض الخصم وتكبيده خسائر فادحة، وإدراك خطر الفناء في التوازن الاستراتيجي الذي راحت تمثّله غزة وجبهات إسنادها، لا يمكن أن نفهم خروج الكيان الصهيوني عن عقيدته العسكرية القائمة على خوض الحروب السريعة، واستمراره بالقتال بعد عام، واستعداده لتحمّل خسارة آلاف القتلى وعشرات آلاف الجرحى وتعطيل اقتصاده وحياته المدنية الطبيعية كل هذه المدة.
للعلم، استمرت حرب الاستنزاف منذ نهاية صيف عام 1967 حتى صيف عام 1970، واستمرت بعد ذلك على الجبهة السورية، ودفع الكيان الصهيوني فيها نحو 1900 قتيل، لكنها لم تجرِ داخل الكيان الصهيوني ذاته، وفي ذلك فرقٌ كبيرٌ جداً.
تتلخّص القصة برمّتها في سردية “المحرقة” اليهودية التي تُقدّم في المناهج الغربية ودورات حقوق الإنسان كذروة سنام الإبادات الجماعية في التاريخ البشري، بما يسخّف أيّ شيء آخر، من إبادة السكان الأصليين في القارات الجديدة التي غزاها الاستعمار الأوروبي، إلى إلقاء القنابل النووية على اليابان في الحرب العالمية الثانية، إلى أي مجزرة جماعية أو مجاعة أو وباء.
أما ما حدث في فلسطين عام 1948، فهو “تطهير عرقي”. أما ما يحدث في غزة منذ عام، فهو “خلافي” يقع ما بين “جرائم الحرب” و”التطهير العرقي” و”المجازر الجماعية”. لكنّ تسلسل سلّم الجرائم المثبت في مناهج حقوق الإنسان، التي يسعى البعض إلى تشريعها كـ “قانونٍ دوليٍ”، يضع ذلك كله في منزلة أدنى من الإبادة الجماعية، كما يضع أي إبادة جماعية في منزلة أدنى من “المحرقة”.
لا تتعلّق “المحرقة” بالمبالغة في عدد اليهود الذين قتلوا في الحرب العالمية الثانية، كما يظن بعضنا، وما إذا كانوا 6 ملايين كما يزعمون أم بضع مئات الآلاف، كما تشير المراجع الموضوعية، من بين أكثر من 50 مليون إنسان قضوا في تلك الحرب قتلاً وجوعاً ومرضاً بالطرق العادية.
يتصل الجوهر الفريد لسردية “المحرقة” بما يسمى “غرفة الغاز” التي يفترض أن ملايين اليهود قضوا فيها بناءً على أمرٍ تنفيذي (لم يتمكّن أي مصدر من إبرازه كوثيقة حتى الآن) من طرف هتلر والقيادات النازية بحرقهم فيها.
تحوّلت “غرفة الغاز” تلك إلى ما يميّز “المحرقة” عن أي إبادة جماعية أخرى، وأصبحت “غرفة الغاز”، بالتالي، كالمذبح الذي يُحرق فيه القربان في المعبد. يسمّى ذلك “ذبيحة المحرقة”، حرفياً، في التوراة، في الإصحاح الأول من سفر اللاويين.
فكأن اليهود ذبحوا وأحرقوا في تلك السردية قرباناً لله عز وجل، والمطلوب الآن من كل العالم أن يكفّر عن ذنبه عن تلك “المحرقة”، بعد أن أصبحت “المحرقة” عقيدة دنيوية ذات جوهر توراتي. وإذا كان هناك من يروّج لها من المسلمين، فهي من “الإسرائيليات”.